علي السوداني
حدثَ هذا بخاصرةِ بغداد العباسية الجميلة ، في واحدةٍ من سنوات الرمادةِ والحرب الطويلة .
كنتُ أيامها أُخيّمُ على ما نضجَ واستوى من الوعي المكتسَب ، والقراءات الأولى اللذيذة ، التي لم أجدها أبداً ساذجةً ومضيعةً للوقت ، كما تفلسفَ في توصيفها تالياً ، كثرةٌ من صحبي الأُدباء والمتأدبون ، الذين هاجمَتْهم نظريات وبيانات الحداثة وما بعد الحداثة ، حتى تعولَموا تمثيلاً وصنعةً ، وهم ليسوا على ذلك بقادرين .
في واحدةٍ من الظهيرات الساخنات الفائضات ، أخذَتْني قدماي صوبَ مقهى حسن عجمي العتيقة ، وهي واحدة من علامات مفتتح شارع الرشيد البديع من جهة الميدان والحيدر خاة وجديد حسن باشا ، وهي المكان الذي يجتمع فيه ، أُدباء العراق ومريدوهم وجلّاسهم من الغاوين الكثيرين والغاويات النادرات .
في المقهى سترى كلَّ أجيال الوسط الأدبي ، لكنَّ الصوت العالي سيبقى خاصاً بجيل الستينيات الذي يرى نفسه – وهو على حقٍّ كبير – مدرسةً مكتظةً بتلاميذ قائمين على غضاضةٍ ، ونتاجٍ جديدٍ يحمل أثر عصا المعلّم وطاعة التلميذ النجيب .
تشاء المصادفات الحَسَنات ، أنْ يستقبلني بوجهٍ مصنوعٍ من ابتسامةٍ شاسعةٍ ، الفتى المشاكس في البدء ، والشاعر الصعلوك المجدّد نصيّف الناصري ، صاحب الجيب المثقوب قبلَ وبعد أن أدركتْهُ حرفةُ الأدب وحيرةُ الكتابة ، ووحشةُ الحروفِ التي لم تجدْ بعدُ ، حائطاً رحيماً متاحاً ، كي تؤدي فوقهُ ، رقصةَ ولذةَ النشرِ الأولِ المذهلِ الجميل .
كان لباسيَ نظيفاً رائعاً ، مثلُ خلطةٍ مدهشةٍ من رصافةِ الحاضرةِ العباسية وكرخها والجسر ، وجواربي تعبىء حذائيَ اللامع ، وترتفعُ شبراً صائحاً على طول الساق ، ولحيتي الإبتدائية عاطرة يشعُّ من سوادها ، ضوعٌ طيّبٌ يشبهُ قصيدةً صوفيةً بمجلسِ ذهول .
أما سكائري الخائفة من خزرة الأبِ وعتبِ الأُمِّ ، فكانت من صنف ذلك المفرد الرخيص الذي لا يصل عديدُهُ ، خمساً نائمات بجيب قميصٍ أنيق ، ولا يكلّف الجيب إلا وسعهُ .
ستحتاجُ دقائق معدودات بقدر أصابع اليدين ، كي تعرف جوهر هذا الصعلوك النبيل ، وتتبادل معه طُرَفاً يجدها السامعون المهذّبون بذيئات خادشات ، وأراها وجليسيَ العذبُ ، مقترحَ مدونات صالحات للنشر ، بباب الأدب الشعبيِّ الخليع .
سألني عن مهوى ومصب فؤادي ، قلت له الشعر ، قال امنحني سيكارةً ، فمنحتُهُ اثنتين .
تآكلتْ تلك الظهيرةُ المنعشة بمسرودات نصيف الناصري المضحكة عن الأدباء ، الكبار منهم والصغار ، وبهذه الحكايات التي كان يزوّقها الصعلوك ، بأثاث مخياله الشاسع ، كنتُ أنا التلميذ الإبتدائي ، منشغلاً بمقاربةٍ موجعةٍ بين روايات هذا الشيطان المجنون ، وتصوراتي الراسخة التي كانت تعشقُ النصَّ ، ولا تفصله أبداً عن منتجِهِ الذي يراه صاحبي ، شريراً حقيراً حتى لو كان أنقذ حياة عشرة غرقى ، بنهاية روايةٍ أو قصةٍ قصيرة !!
على أول بيبان العصر ، ومن قعدةٍ رحيمةٍ فوق تختٍ خشبيٍّ بائسٍ ، وبمعول تكسير الحدود الذي كان بيمين نصيّف ، عرفتُ موسى كريدي ومالك المطلبي وحسب الشيخ جعفر وخالد علي مصطفى وعبد الجبار داوود البصري وأحمد خلف وعبد الخالق الركابي ويوسف الحيدري ويوسف عبد المسيح ثروت وقيس لفتة مراد ومحمود العبطة وكمال سبتي وسلام كاظم ورعد عبد القادر وزاهر الجيزاني وخزعل الماجدي وخيري منصور الذي يرسم فوق وجهه ابتسامةً واحدةً كلَّ سبعة أعوامٍ قاسيات ، تماماً مثل نادل المقهى وحامل صينية الشاي والحامض ، أبو داوود العبوس ، الذي مات ولم يميّز بين طبيب القلب وطبيب النقد ، وتالياً عشيرةً ضخمةً من الثمانينيين والتسعينيين الجدد !!
0 تعليقات
إرسال تعليق