ثائرة اكرم العكيدي
رغم أن الدستور العراقي نص على استقلال القضاء بشكل كامل أمام أي محاولات لتدخل الجهات السياسية والمسلحة في عمله إلا أن كثيرا من القضاة أصبحوا (خاصرة رخوة) أمام تدخلات الميليشيات الطائفية، حيث يخشى بعضهم على حياتهم، فيما يتقبل البعض الآخر هذه التدخلات طمعًا في مكاسب مادية يحصلون عليها.
أن دخول السياسة في عمل القضاء العراقي قد ساهم في إفساده كثيرا، ورسم صورة سلبية عنه لدى المواطن البسيط، ويرى محللون أن القضاء كان أكثر استقلالًا في العهد السابق رغم خضوعه أحيانًا لتأثيرات الدولة والحزب الحاكم، إلا أن الأمر تضاعف وازداد تعقيدًا بعد عام 2003، حيث انتقلت عملية المحاصصة الطائفية والسياسية إلى المؤسسة القضائية، وساهمت في خلخلة بنيانها وإضعاف دورها ومن الطبيعي أن تستطيع الأحزاب المتنفذة التأثير على من جاءوا بهم إلى هذه المناصب. نحن لا نريد التعميم في وصف القضاة بالفاسدين، ويعتبر أن وضعهم هو انعكاس لطبيعة مؤسسات الدولة التي بنيت على المحاصصة الطائفية والحزبية بعد الاحتلال الأمريكي أن نسبة الفساد في أوساط القضاة مرتفعة بلا شك، لكن قسماً منهم غير مشترك في كل ما يدور حوله من صفقات هناك. قضاة رفضوا ويرفضون أن يشاركوا في هذه الصفقات التي تسلبهم قراراهم ونزاهتهم، لكنهم معزولين لا يشاركون في صناعة القرار داخل السلطة القضائية.
هناك الكثير من القضاة الفاسدين والمرتشين، لكنهم لا يمثلون الأغلبية ومعظم الفساد يكون عند ضباط التحقيق، كما أن معظم المواطنين يتخوفون من تقديم شكاوى ضد عناصر الميليشيات؛ بسبب ثقافة الخوف والترهيب التي تسيطر على المواطنين، وخشيتهم من انتقام هذه العناصر منهم. وبسبب هذا الفساد أصبح القضاة من كبار أصحاب العقارات والمشاريع التجارية في بغداد، وأربيل، وعمان، ودبي، وإسطنبول، وغيرها، ويجري ذلك كله في ظل تعتيم إعلامي كبير على نشاطهم هذا بذريعة عدم المساس بالمؤسسة القضائية.
هناك رِشاوي كبيرة تُدفَع لمسؤولين في مجلس القضاء الأعلى من أجل تعيين بعض الأشخاص قضاة، بدفع من أثرياء وسياسيين وقادة مجموعات مسلحة، مما يجعل هذه المؤسسة الأكثر فساداً على مستوى العراق
وتسعى المؤسسات الإعلامية التابعة لأحزاب السلطة إلى رسم صورة زاهية عن القضاء في العراق، وتصويره على أنه المؤسسة التي لم تستطع السياسة إفسادها، ويتم ذلك بتوجيهات مباشرة من قيادات حزبية رفيعة، بالاتفاق مع مسؤولين في المجلس، ضمن صفقات متبادلة استطاعت توفير الحماية للفاسدين والقتلة على مدار عدة سنوات ماضية.
هناك الكثير من القضاة يتجنبون الوقوف في وجه عمليات الفساد خوفًا على حياتهم وحياة عوائلهم من الاستهداف من قبل ميليشيات وأحزاب نافذة وقد سبق وأن استُهدِف بعضهم، وتصل البعضَ الآخر منهم تهديدات باستمرار لإجبارهم على الانحياز لبعض الأطراف في الصراعات التي تدور رحاها يوميًا في ساحات المحاكم.
لكن آخرين لا يبررون سكوت هؤلاء القضاة على اعتبار أن وظيفتهم ومناصبهم تستدعي منهم الانحياز إلى الحق مهما كانت العواقب إن كل قاضي يعمل في هذا السلك يقسم على احترام الدستور والقانون، وعدم الانحياز إلى طرف ما على حساب الحقيقة، ومن واجبهم أن يقولوا كلمة الحق في ما يرونه أمامهم من عمليات فساد وظلم وابتزاز وهناك بعض القضاة فضلوا الانسحاب من عملهم بعدما وجدوا أنفسهم محاصرين بجيوش من الفاسدين والمجرمين، الذين استطاعوا لوي أعناق القوانين، والتجاوز حتى على أحكام الدستور بفضل النفوذ الذي يتمتعون به، ففضل هؤلاء القضاة الاستقالة والانسحاب بهدوء حتى لا يكونوا جزءًا من عمليات الفساد والظلم هذه.
في حوار سابق لي مع القاضي رازكار محمد امين والذي نشرته جريدة المساء سألته كيف تنظرون لحال القضاء العراقي عام وقضاء كردستان بشكل خاص؟
اجابني قائلا: كنت اتمنى ان يكون القضاء العراقي بأحسن حال ولكن هو ليس بخير لا بل يسير نحو الاسوأ كما رأى..
القاضي رازكار من القضاة النزيهين واصحاب مبادئ ومثل وقيم حين فضل الانسحاب من محاكمة النظام السابق على تدخل بعض الشخصيات والاحزاب التي طلبت منه ان يطلق الحكم بأسرع وقت دون اللجوء للشهود والاثباتات اي دون العمل بالقانون فهو اراد تطبيق القانون رغم التهديدات التي كان تلقاها.
لقد نص الدستور العراقي على ضمان استقلال القضاة كأشخاص، وعدم السماح بوضعهم تحت سطوة أية سلطة من السلطات الحاكمة وأن يكون خضوعهم لسلطان القانون فقط لكن من وضع الدستور هم أنفسهم الذين لا يطبقوه.
ان الضغط على القضاء والتدخل في قرارته من قبل احزاب وشخصيات سياسية هؤلاء الذين لا يلتزمون بضوابط النظم الديمقراطية ولا يهتمون لمبدأ الفصل بين السلطات، وهم جهات تحول دون تفعيل الكثير من الملفات، وتعطليها من أجل إبقاء سيطرتها وهيمنتها لصالح عناوينها السياسية، لقد سجل القضاء وخلال فترة (17) عاما انتهاكات دستورية ومجاملات كثيرة لصالح الأحزاب المتنفذة والحاكمة.
ان القضاة الذين يتم تعيينهم في المحاكم عن طريق الأحزاب، وبالاعتماد على المكونات والنسب، ومن خلال القضاة الموالين للأحزاب، تتم إدارة الملفات القانونية بمشورة بعض الأحزاب تتدخل بشكل مباشر في عمل القضاء،
أن خروج القضاة من طوق الأحزاب، يكمن في حلّ واحد، هو أن يتوجه من يملك وثائق تدين أحد السياسيين أو الإرهابيين إلى وسائل الإعلام قبل عرضها على القضاء، لتصبح قضية رأي عام، آنذاك يصبح الشعب أداة ضغط على القضاء لتعجيل فتح الملف والتعامل معه باستقلالية، ويكون الشعب هو مصدر السلطات
هناك ملفات التي أنجزتها اللجان التحقيقية في العراق، وتحديداً عقب العام 2003، كثيرة ولا يمكن إعطاء رقم تقريبي لعددها ووفقا للمصادر ذاتها، فإنّ تلك الملفات تتعلّق بمسؤولين كبار في الدولة وقيادات سياسية شيعية وسنية وكردية متورطة بشكل مباشر فيها. فمثلاً، ملفّ سقوط الموصل وحده والمجمّد من قبل القضاء، تسبّب بمقتل وإصابة ما لا يقلّ عن ربع مليون عراقي، واختفاء نحو 40 ألفاً آخرين، فضلاً عن الدمار الهائل الذي قدّر بنحو 88 مليار دولار في مدن شمال وغرب ووسط البلاد، عدا عن تهجير قرابة الستة ملايين عراقي داخل البلاد وخارجها. ويأتي ذلك فيما يواجه المالكي ونحو 40 مسؤولاً آخرين، بينهم قيادات عسكرية، تهم الخيانة العظمى والفرار من المعركة خلال اجتياح تنظيم داعش العراقَ، إلا أنّ القضاء لم يفتح أياً من تلك القضايا ويرفض من الأساس التحدّث للصحافيين بشأنها، كما أنّ سياسيين يتحاشون التصادم مع القضاء خوفاً من كسب عداوته وبالتالي الإيقاع بهم كما حصل مع آخرين سابقين. منذ عام 2003 ولغاية الآن، لم يتمكن القضاء العراقي من رسم صورة إيجابية أو مستقلة له داخل الشارع العراقي، فتهم التحيز لجهات سياسية دون غيرها ظلت مرافقة له.
السؤال اليوم هل ستشهد حكومة الكاظمي العمل على تحقيق استقلالية القضاء وتمكينه للوقوف بوجه الجهات السياسية المتنفذة، وتوفير ضمانات الحماية للحقوقيين، وإبعاد الهيمنة الحزبية والتدخلات في قرارات المحاكم لاتخاذ اللازم بحق المتورطين في ملفات الفساد العالقة منذ سنوات من اجل بناء الدولة وتعزيز المواطنة والكفاءة والنزاهة. فمن المفترض أن تكون كل مفاصل الدولة مفتوحة لكل العراقيين...
0 تعليقات
إرسال تعليق