زيد الحلّي
ما كُتب عن القاص والاديب علي السوداني، الكثير، لكني اشعر ان مجاميعه القصصية، وكتاباته الصحفية والنثرية، واسلوبه بتقديم البرامج التلفزيونية النقدية، ومساهماته في السرد الوثائقي، بحاجة الى بحث جدي، وناقد موضوعي يحرث في ارض العطاء الثقافي للسوداني الذي يشمل كل تلك الجوانب برؤية متأنية ثاقبة، وبأنقى بصيرة وأصدق نية وأمضى عزيمة وأشد ثقة، وآمل أن أكون قد أوصلت ما أردتُ قوله في موضوع وجود ناقد او باحث في كتابات علي السوداني.. فهذا الكاتب والانسان، اثار ويثير الجدل دوما، مرة برغبته، ومرات برغبات الاخرين، وهي تنطلق من ينبوع المحبة له، ولكتاباته لاسيما الساخرة، التي عُرف بها، وهي كتابات جديدة، ومتجددة، فهو يرى ان التجديد والآراء المختلفة مهمة جدا للكاتب، سواء كتب بلغة السخرية، او الجادة، لأنه يستطيع قياس نفسه، والقارئ عنده ليس فقط هو صاحب الرأي في الكاتب، ولكن الكاتب أيضًا صاحب رأي في القارئ، فاندمج الرأيان ليشكلا مدرسة اسمها مدرسة “علي السوداني "
وفي آخر اصدارته وهي مجموعة قصصية، ذات طابع مزج فيه السرد بالذاكرة والذكريات تحت اسم (قطة تعزف على طاولة الدرويش) ضم مائة وخمس قصص اهداها، الى مائة وخمسة اصدقاء ينتمون الى الوسط الأدبي والفني (لم أكن من بينهم!) اعطى من خلالها ملامح الود، والانسانية لأصدقاء جمعتهم الالفة والمحبة في ميدان الغربة، وغير الغربة، وهذا مؤشر للوفاء الذي يحمله قلبه ووجدانه لمن تنفس معهم هواء عاديات الزمن.
ان الكتابة الساخرة تبقى نهجاً ثقافيا مدهشا في حضارتنا، فبمفرداتها، يمكن للكاتب ان يواجه الأزمات، فهي وسيلة التنفيس عن حياة المواطنين وأوضاعهم المجتمعية، لاسيما حين يصطدم المتابع بالسخرية الموجعة، ولعل الأديب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني كان مصيباً بقوله: إن السخرية ليست "تنكيتا" ساذجا على مظاهر الأشياء، ولكنها تشبه نوعا خاصا من التحليل العميق ...
وايضا قول الاديب السوري محمد الماغوط حينما سئل ذات مرة عن ماهية السخرية؟ فأجاب: إن السخرية هي ذروة الألم.
ومن الكتاب العالميين الكبار أنطون تشيخوف، الذي اعتبرت كتاباته الساخرة في أعماله القصصية والروائية، مقدمة للثورة ضد الأوضاع في روسيا القيصرية.. وقبلهم، كان الشاعر الكبير "بشار بن برد" الذي توجد لديه، أكثر من اثني عشر ألف بيت في الهجاء المر والسخرية الضاحكة الحزينة، كما يعد صاحب الالهام الشعري "أبو العلاء المعري" من البارعين في هذا المجال، حيث قدم إنموذجا أرقى لفن السخرية ببعده الفلسفي.. اذن، ان فن السخرية ميدان تألق وإبداع عند الكثيرين من الكتاب، واضع بمحبة الصديق الكاتب علي السوداني من بين المبدعين في هذا المجال، السهل الممتنع.
ومع قناعتي إننا نعيش حاليا فترة خصبة تمثل السخرية بعينها، ورغم ان الكتابة الساخرة ليست جديدة، فهي موجودة منذ عصر الفراعنة عن طريق نحت رسومات ساخرة عن الأعداء والأسرى وُجدت على جدران المعابد وتم تصويرهم على أشكال حيوانات، غير ان كتابات " علي السوداني " الساخرة التي اطالعها على اخيرة صحيفة " الزمان " اسبوعيا، أجد فيها نوعاً غير مطروق من الغمز واللمز عند تناولها الشأن السياسي والاجتماعي الذي نعيش تحت ظلالهما اليوم.. فسطوره تخفى على الكثيرين، فتجدهم لا يفرقون بين السخرية، والزعيق، فالسخرية تضحك، والزعيق يضحك ايضاً، إلا أن ضحك الزعيق لا طائل وراءه ولا ثقافة او صحافة، أما السخرية المرّة فهي، دائماً وأبداً، تنطلق من موقف وتهدف إلى موقف، مسكونة بالهم الإنساني العميق، ومن وجع الكلمات تنبع الضحكات، وهكذا هو اسلوب السوداني، فالكتابة والحياة، عنده صنوان لا يفترقان، كلاهما، يكمل الاخر.. فإذا ما نظرنا الى الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والامنية في بلدنا العزيز العراق، فسنراها مضطربة بشكل كبير، وعلى هذه البديهة، سوف لن نتعب أنفسنا في البحث عن الجواب الشافي، فنلجئ الى حروف السخرية فهي تعطينا انعكاسا لكل ما تقدم.
اختم بسطور قليلة، مشيرا ان القارئ بحاجة الى سقيفة تحميه من الامطار وهجير الصيف، وبصدق اقول ان علي السوداني، هو تلك السقيفة التي تحمل حروفاً رقيقة، وسطور ثقافة في سخرية راقية، ممتزجة بضوع الورد، ومسمار الاصلاح، دون ان تسبب صداعاً، ولا تعكر مزاجاً، فحين يكتب لا تجد عنده ما هو خاف لان الوضوح والمباشرة أولى ادواته في الكتابة الساخرة، بصفتها مادة شعبية، عابرة للطبقات والمكونات!!
وصدق العرب حين قالوا قديما: شر البلية ما يضحك
0 تعليقات
إرسال تعليق