محمد الزعيم الدليمي


انفجار مرفأ بيروت أشدّ من الذي كان قبله وأهون مما سيأتي بعده. دفع الله ما هو أعظم شرّا وبلاء. لسنا بمعزل عن هذا الحدث الكبير الأليم، ولا نحن بمنأى عن مثيل له يتربص فينا، كلنا دروع بشريّة لإرهاب المشاريع الشيطانية، تحت كل مدينة أو مرفق حيوي قنبلة تدميرية، تربتنا وهوائنا ومائنا ملوّث، وكل طعامنا متعفّن مسموم يقتلنا ببطيء، حتى عقولنا لم تسلم أن تكون مزارع ألغام لأفكار الشر الطائفي وقابلة للانفجار عند اللزوم، وفوق كل البلاء الذي يضربنا أتتنا جائحة كورونا لتفضح عورتنا والفساد المستشري في كل مفاصل حياتنا. ماذا نقول عن أنفسنا؟  من نحن حقّا، هل نستحق أن يكون لنا مكان على جغرافيا الشعوب والسياسة العالمية، هل إن حقبة الاستعمار الغربي الذي مازلنا نطبّل ضدّه كان شرّا علينا حقيقة؟ عندما دخلت الجيوش الاوربية الى بلادنا قبل مئة عام كانت عبارة عن خرائب بالية تماسكت منذ عهود الامويين والعباسيين، لقد غربت شمسنا حقيقة منذ الغزو المغولي التتري الذي اجتاح بلادنا بنفس الطريقة المرعبة الأمريكية بفارق بسيط هو أن امريكا جلبت معها عشرات من أمثال ابن العلقمي.  لقد بقيت أوطاننا وأمتنا تعيش في ظلام دامس أشدّ من ظلام الجاهلية، صراعات وفوضى وسلب ونهب ودمار وإرهاب لا يختلف عن الذي نشهده اليوم، بلا أي شواهد حضارية ولا تعليم ولا ثقافة ولا أي قيمة لوجودنا. وبعد تلك الحقبة الظلامية أتت الحقبة العثمانية الأكثر عتمة وظلاما , من الخطأ أن نعتبر هذه الحقبة استعمارا , ذلك أن مفهوم الاستعمار في مضمونه يختلف عن الاحتلال وهو أقرب الى الفتح بلزوم القوات الفاتحة أن تتبنى إعمار الأوطان التي تفتحها وأن تُقيم أنظمة أو تؤسس دول فيها تحت وصايتها , وهذا لم يحدث إطلاقا طيلة الفترة التي هيمنت فيها السلطنة التركية العثمانية على بلادنا العربية , لم تكن بلادنا سوى أرض مغتصبة بكل ما لهذه الكلمة من معنى , وقد شهدت بلادنا صراعات مستمرة ضد الاحتلال التركي الذي صادر ودمر كل شيء ولم يبني أي شيء طيلة أربع قرون سوداء كان اعتبارنا الوحيد فيها رعايا بلا حقوق أو جنود مرتزقة في حروب السلطنة , وسّلطوا  علينا عبيدهم المماليك ليحكمونا بسياط الاستبداد ويسلبون خيراتنا  لتذهب الى اسطنبول والمدن الزاهرة التركية , لعلّ الكلام عن هذه الفترة المظلمة يحتاج الى عشرات المقالات وهي بلا شك موضوع خلاف تتشابك حوله الآراء , وقد يتصوّر البعض أنني أسوّق لأجندة معادية لدولة تركيا العلمانية  , هذا التصوّر غير صحيح , فلا  يوجد رابط عقائدي بين الدولة القومية العلمانية الحديثة في تركيا وبين السلطنة العثمانية التي كانت قائمة  على شرعيّة ولايتها الاسلاميّة , حيث قضى مصطفى كمال أتاتورك بحلها وانتهاء عهدها بتأسيس دولة تركيا الحالية , بذلك لا يجوز اعتبار حزب العدالة والتنمية السياسي إضافة لتحالفاته خارج حدود تركيا مع الجماعات الاسلامية بأنه وريث السلطنة العثمانية الرسمي , هذا الحزب مقيّد بالدستور القومي العلماني التركي رغم إنه يسوّق  مشروع سياسي محكوم بأيديولوجية دينية لا يختلف عن مشروع ولاية الفقيه في إيران بغض النظر عن خلفيتهما المذهبية طبعا , وفي تركيا من يعارضه ويرفض بشدة أي رجوع للسلطنة والتخلي عن علمانية الدولة . لقد انتهت تلك الحقبة المظلمة  بالاستعمار الذي لا تزال بلادنا  مكبلة بواقعه   , دخلت بريطانيا وفرنسا  الى اوطاننا بعد أن تهالكت وتهاوت السلطنة العثمانية وخسرت في الحرب العالمية الاولى  , ثم أرادت هذه الدول الاستعمارية أن تستنسخ تجربتها السياسية في الحكم وواقعها الحضاري على خراب واقعنا  ثقافيا وعلميا وعمرانيا , بريطانيا أسست أنظمة دول بوزارات وجيوش وبرلمانات وأنشأت جسور وسدود ومدارس وجامعات ومستشفيات ومصانع وشقت طرق وسكك حديدية وحتى مسارح ودور سينما وانجازات أخرى كثيرة لا تزال قائمة وشاهدة في بلادنا   , كذلك فرنسا في سوريا ولبنان , وحتى الآن  مازلنا ندين لهذه الدول في ثقافتنا وانماط سلوكنا وأسلوب الإدارة المدنية والعسكرية ويفخر كثير من ضباط جيوشنا بدراستهم في بريطانيا , وبالطبع هناك فرق  بين النمط الاستعماري البريطاني في التقاليد الأرستقراطية المحافظة التي تحرص على التراث والهوية الوطنية لشعوب مستعمراتها وتعززها , وبين الاستعمار الثقافي  الفرنسي الذي حاول نقيض ذلك كله الى مستوى تغيير العادات الاجتماعية وحتى اللغة  العربية خاصة في دوائر الحكومة .. لم يستطيع الاستعمار أن يغير واقعنا ويحقق أهدافه الاستراتيجية لأسباب كثيرة لا يسع المجال أن نخوض فيها ضمن مساحة المقالة المحدودة، ثم أتتنا الويلات من أنفسنا بالانقلابات العسكرية والتشتت الفكري والتحزبات التي كانت أسوئها حركات وأحزاب الاسلام الطائفي (لا أحبّذ مصطلح الاسلام السياسي) , هذا الذي أنتج لنا الانقسامات المجتمعية والإرهاب والجماعات المسلحة العميلة التي تقاتل بالوكالة لتحقيق أهداف ومشاريع اقليمية ودولية تتناغم مع المشروع الصهيوني وتزاحمه في قضم واحتلال بلادنا . إن الواقع بكل حيثياته أثبت إننا لم نبلغ سن الرشد الذي يؤهلنا أن نستغني عن الوصاية الاستعمارية. لا نزال حتى اليوم مُغيبين عن الوعي الحضاري بلا هويّة نعرّف فيها أنفسنا لنثبت للعالم وجودنا , إننا نحن  وليس غيرنا ,  نحن ننتسب الى اللذين شيدوا  أقدم شواهد الحضارة الإنسانية , نحن اللذين كتبنا أول قانون للبشريّة , من بيننا أشرقت كل الأنوار والأديان والقيم الانسانيّة , نحن القلب النابض في عروق الشرق والغرب , نحن وليس اللذين تطفلوا على وجودنا ليمسخونا بمشاريعهم الطائفية المستهلكة الفاشلة والإرهابية التي تعبث  في مقدراتنا فسادا ولصوصية وجاهلية , إن انفجار بيروت المُرعب  ليس سوى حلقة ضمن  سلسلة الدمار الذي أصابنا , لقد تم  تدمير العراق كله , وتم تدمير سوريا  واليمن وليبيا , ولازال التدمير مستمر حتى اليوم . أهلنا في لبنان لا تزال جروحهم تنزف ولم يستفيقوا من هول الصدمة، وحكومتهم مشلولة فاقدة لرشدها وبوصلتها السياسية بلا وعي لمسؤوليتها الوطنية، بيروت الآن لبوة جريحة وأشبال لبنان ستكون لهم صولة أكبر من قوة الانفجار لإنهاء وجود العمالة الأجنبية والإرهاب الطائفي والفساد المنظم. لبنان الجميل بتنوعه الثقافي والمجتمعي سيكون أجمل بعد أن يطهر من النجاسة الطائفية، ثورتنا واحدة تمتدّ من العراق الى كل سوريا ولبنان واليمن وليبيا وكل عاصمة أو أرض مُحتلة ومغتصبة. المجد والخلود لكل الشهداء الأبرار اللذين طالتهم أيادي الغدر الطائفي، عاش العراق وعاش لبنان وعاشت سوريا واليمن وليبيا وعاشت كل أقطار أمتنا العربية المجيدة ....