كمال عبد الرحمن
ناقد من العراق


يصبو الشاعر اسماعيل خوشناو في هذا النص إلى مماهاة عنقود من أفعال المضي، استلت من مسألة الوحشة أو فعل الحزن، بتيسير من فراديس معطلة، يصرخ من خلالها في رحاب الفضاءات المجروحة، من أجل ان يكون هذا المفهوم الازلي للصراخ، مجرد حاسة ملتهبة تنطوي عليها قيامة الأسى:
حزمت، عصى، نسج، أصاب ،طحنت) ، يستقصد الناص خوشناو من خلال كينونة الافعال ( المتراصة ، المتوثبة ) ، توكيد استعراض ( سيرة زمنية ) لفراديس يابسة ، يخرجها الاسى ، الى معاجمه المشفرة بانماط واُطُر دلالية ، قادرة على إنتاج فضاءات تتسع على تقرير البوح بما هو مألوف أو غير مألوف ، وحين يتقعر الاسى بدلالات الخراب في فراديس القحط ، فان السياق الشعري يخرج من جادته المعجمية المألوفة ليتجذر في مستوى جمالي ينبع من داخل الذات ، هاتكا أزمنة من جدلية ( التمني / الواقع ) في التجارب الشعورية ، وسابرا ابعاد هذا الخراب بترويضه لمفردة الزمن ، ومتأملا في انزياحاتها التي تكسر اعراف اللغة المشاكسة في خضم حركة تهتك حجب الامكنة المطوقة بالمألوف ، وتتجه صوب تأسيسات اولية لفراديس اخرى لا تتقن العطل : 

لَعَلَّ الزَّمَنَ يَكْفِلُ
رِعَايَةَ ما سيَبْقَى
مِنْ نَسْلِ قَصَائِدِي
وأَحفَادِي
قَلَمٌ قَد غَدَا
الى البَّوابَةِ فَجْراً

   
ويمنح التضاد بيئة هذا النص، عنفوان احتدامه، فيتجلى في مستويين:
الأول: عبر عناقيد الأسئلة التي تتشكل من خلال رؤى ملونة، تدور في الزمن الجميل، رؤى تحريضية فاعلة لها القدرة على وصف الماضي بآلة التمني التي لا قدرة لها سوى على التصور والتخيل السلبي ولاقدرة لها أيضاً على صنع تكوينات الحاضر وتشكيله الواقع بفلسفاته وارهاصاته ومعاجمه التأويلية.
والثاني: فهو يشتغل على تفصيل الجدليات بين (الأنا) و (الآخر) في مسافة لا تبتعد كثيرا عن الحلم، ولا تقترب كثيرا من الواقع:

قَلَمٌ قَد غَدَا
الى البَّوابَةِ فَجْراً
أَرجُوكُمْ اِعذِرُوني
سَيُسْدَلُ السِّتَارُ
عَنْ أَعيُنِكُمْ
أتَمَنَّى

اما إيقاعات الأسى التي شاكسها الشاعر اسماعيل خوشناو في قصيدة (هُمُومٌ وآهات)، فقد ارتكزت على تفاعلات وتضادات (داخلية / خارجية) ذات صدى قوي في تشكيل غالبية القصيدة، ويتواشج طرفا هذه الثنائية المتضادة في نسج حركة متصارعة تبقى مهمشة خارج إطار الذات المغتبطة بحبر الأذى (الأسى) والاحزان.
      وفوق هذا فالشاعر يتقمص شخوصه التي تنتشر داخل بقاع النص وعلى مدى الأسى في مدائن قصيدته، وذلك يبدو واضحا من القشرة المتطامنة على سطح النص، وهو في الأعماق يرسم سيرته الإنسانية التي صاغها ببراعة عبر لحظة انزياح جهة تلك العوالم التي سكنتهُ فردّها الى فضاءات النص بأسلوبية تتشكل على هيئة أسئلة رائحة غادية بين أزل النص وأبده:

لَقَد حَزَمْتُ
مِنْ قَهْرِ الْهُمُومِ
أمْتِعَتي
وعِنْدَ الْأَثَرِ
لَوَحاتُ آهاتٍ
تَروِي
قِصَصَ مُعَاناتي

ويرسم الشاعر صرخاته الصامتة بين مسارات الصدى وانكسارات السُدى، تلك المسارات التي لا تتفق على جهة ما، بل تبقى دائرة في غيابة الحزن التي تطارد الشاعر من أسى إلى أسى:

أَحرُفُي
وغَالياتِي
جَارُوشَةُ الْيَأْسِ
طَحَنَتْ كُلَّ لَحنٍ
فَما عَادَ نَغَمٌ
لِرَقْصِ
الْمَشَاعِرِ

ان من شأن قراءة متأنية لقصيدة (هُمُومٌ و آهات) للشاعر اسماعيل خوشناو أن تضع المتلقي في سلسلة من المشاهد السرمدية الغائمة بالأسئلة، تنبعث منها غيبوبات ملونة، تشي بذلك الاشتعال النفساني لدى الناص ، ذلك الذي فجّر ينابيع الأسى ترجمات من لغة الجمر إلى واقع ضائع في غواشي( التبصر/ الانغلاق)، وحتى لو فرضنا جدلاً أن ثمة تشابهات في موجات الصراخ التي يطلقها الشاعر بين دهاليز النص ـــ لكن لكل صرخة هوية ومذاق مختلف : 

كُلَّمَا رَسَتْ
على العَينينِ فَرحَةٌ
غَارَتْ عَلَيهِما
قَرَاصِنَةٌ مِنَ الْأَيَادي
ولَطَخَتْ سَوَاحِلَها
بِالْحَسَدِ
والسَّوَادِ
نَعَتْ رِثَاءَ الْخَنْسَاءِ

هكذا تتجسد هندسة الألم في سرابيل الكارثة الذاتية، حيث يقف الشاعر في مهب النيران مقتحما سعيرها، فاضحا ممالك الرماد التي تضيء خرافات من جمر روحها، واشتعالات كابية تخبو هناك، لتحيا هنا من جديد.
     يعاني النّاص خوشناوعلى طول القصيدة من رهاب انسحاق الزمن الجميل والالتجاء إلى الحزن كحلّ غير ودي لكن واقع لا محالة هذا الحزن الذي لا ينتهي الا ليبدأ من جديد، وعلى الرغم من كل ذلك، فهو يصرخ في فضاء الجمر آملا أو متخيلا ان تصل اخر تموجات صوته إلى من لم يعد يهتم بالأمر ولو كان صراخه نثار غبار من بكاء السنوات:

لَعَلَّ الزَّمَنَ يَكْفِلُ
رِعَايَةَ ما سيَبْقَى
مِنْ نَسْلِ قَصَائِدِي
وأَحفَادِي

وتشتغل ايضا قصيدة الشاعر خوشناو هذه على بلورة الغائص من التأزم الانساني في فضاءات مغلقة تحت وابل القهر العظيم، إلى اخرى مشرقة بإعادة التشكيل من أطُر خربة إلى رؤى يمكن إحياؤها واخراجها من دياجير السياسات (الانسانية / الزمنية) المقعرة إلى بشائر تتلألأ في جبين الابيض من الايدلوجي الانساني، هذا الذي خرج توا من محرقة الأسى الى مشاريع الصفاء. لكن هذا الصفاء لا يعلن على رؤوس الاشهاد دائما، بل يظل معلقا على باصرة الامل (البعيد / القريب) في استعراض (امجاد الماضي ايام تلألأت وكانت ...):

قَلَمٌ قَد غَدَا
الى البَّوابَةِ فَجْراً
أَرجُوكُمْ اِعذِرُوني

ويخلق التناظر الواضح بين الضمير (الظاهر ـ البارز) ـ انا ـ والضمير المستتر (انت) صورة كنائية تشير الى الاتساق بين ( أنا ) الشاعرة و ( أنا ) الرمز بوصفهما كيانين منفصلين في حين ان هذا التناظر يتلاشى في خاتمة النص إذ ْيشتغل ذلك الرمز  على تكرارية ( الظهور ) و ( الاستتار ) على طول جسد القصيدة دون أن يجد له ملجأً في نهاية المطاف : 

قَلَمٌ قَد غَدَا
الى البَّوابَةِ فَجْراً
أَرجُوكُمْ اِعذِرُوني
 بأَنْ تَنَالَ رِضَاكُمْ
ذِكْرَياتِي

ان اتقان ( لعبة الضمائر ) وتركيبها واشتغالاتها المختلفة ، تعتبر حسنة لصالح النص ، فهو ـ النص ـ قائم على تشكيلات تناظرية في استعمال الضمائر ، بحيث منح المتلقي فرصة لتأويل التخاطب ( المباشر ـ غير المباشر ) بين ( الأنا ) و ( الآخر ) وهذه الجدلية التي تعزز قدرة النص على الابداع وتشد اطرافه شدا محكما ، وفي الغالب يكون باعثا للدهشة والتأمل :

لَقَد حَزَمْتُ
مِنْ قَهْرِ الْهُمُومِ
أمْتِعَتي
وعِنْدَ الْأَثَرِ
لَوَحاتُ آهاتٍ
تَروِي
قِصَصَ مُعَاناتي

ويكثر القول في قصيدة ( هُمُومٌ و آهات) للشاعراسماعيل خوشناو ،ففيها تعدد قراءات ، وفيها تأويلات لغوية ، وفيها جدلية الانسنة والشيئنة ، لكننا نختصر فنقول ان هذه القصيدة تصطبغ بإحساس المبدع الذي له القدرة على انسنة فراديس اخرى لاتتقن الاسى ولاتمارس العطب ، فراديس اسسها الأمل بعد ان غادرها الحزن الذي تشرنق مسامات جسدها من اول الجمر الى اخر النار ، وتلاقحت مسارات معاجمها بترياق الصدى ، ذلك الهلام الذي ما يزال يركض وراء الصوت منذ الاف السنين ولايجد اليه سبيلا .