د. بشار قدوري


اول ما ينظر القارئ لسيرة الإمام الحسن بن علي هوالتكتيك السياسي) حيث جاء في اظهار القوى اولا للخصم ثم اظهار الصلح , حيث اظهر الامام الحسن قوته بأعداد جيش الى الشام لكنه كان يرمي وينظر الى الصلح حيث كان ميل الإمام الحسن إلى الصلح ظاهراً منذ يوم بيعته, إذ كان يقول: (تبايعون لي على السمع والطاعة, وتحاربون من حاربت, وتسالمون من سالمت).  وقيل إن أوّل من بايعه قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري, وكان قيس في حياة الخليفة الإمام علي رضي الله عنه يقود أربعين ألفاً من المقاتلين, وكان ذلك من علامات إرادته للصلح.

الوحدة الوطنية الاسلامية :
 نظرة الامام الحسن في توحيد البلاد والعباد من خلال التنازل حيث استثمر وفد معاوية الذي ارسله ,  فقد جاء في صحيح البخاري أن معاوية (والي الشام آنذاك) هو الذي بدأ بطلب الصلح عندما رأى كتائب الحسن, وقال: (إن قتل هؤلاء هؤلاء, وهؤلاء هؤلاء, من لي بأمور الناس, من لي بنسائهم, من لي بضيعتهم  , وبعث معاوية إلى الحسن رجلين من قريش هما عبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عامر بن كريز يفاوضانه على الصلح). وتحقق الصلح بالفعل, وتنازل الحسن بالخلافة لمعاوية سنة 40 هجرية , وسمي ذلك العام عام الجماعة, إذ توحدت راية المسلمين بعد طول قتال وخلاف .

العفو عند المقدره :
لما نظر الحسن إلى كثرة ما معه من الجند رغب في حقن دماء المسلمين, وبما عند الله تعالى فبادر إلى طلب الصلح, وقد جاء وصف قوة جيش الحسن رضي الله عنه في صحيح البخاري عن الحسن البصري قال: (استقبل والله الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال) , وهذا يدحض مزاعم الذين قالوا أن الحسن كان ضعيفاً ومكرهاً على الصلح.

 مسك العصا من المنتصف :
 كان الامام الحسن ذو حنكه سياسية وحيلة شرعية فبعد التنازل اراد ان تكون هناك نقطة عودة ليضمن عدم فسق من بعده في الخلافة , ونستنبط ذلك في نهاية خطبه قالها امام معاوية بعد دخول الاخير الى الكوفة , فينقل ابن كثير عن محمد بن سيرين قال: (لما دخل معاوية الكوفة وبايعه الحسن بن علي قال أصحاب معاوية لمعاوية: مر الحسن بن علي أن يخطب، فإنه حديث السن عيي ، فلعله يتلعثم فيتضع في قلوب الناس. فأمره فقام فاختطب فقال في خطبته : أيها الناس لو اتبعتم بين جابلق وجابرس  رجلا جده نبي غيري وغير أخي لم تجدوه، وإنا قد أعطينا بيعتنا معاوية ورأينا أن حقن دماء المسلمين خير من إهراقها، والله ما أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين - وأشار إلى معاوية- فغضب من ذلك وقال: ما أردت من هذه؟ قال: أردت منها ما أراد الله منها. فصعد معاوية وخطب بعده. وقد رواه غير واحد وقدمنا أن معاوية عتب على أصحابه) .  

تجد في نهاية الخطبة والاشارة لمعاوية وتعليله بالظن والاحتمالية بان تكون بيعه معاوية وحكمة فتنه لأهل الكوفة ومن ورائها لجميع المسلمين, هي تطبيق واقعي لمسك العصى من المنتصف , فكأنها تحذير لمعاوية بانها اذا لم تحكم بما انزل الله وتكون عادل بين الفريقين ومن ورائهم المسلمين جميعا فانة سأنتزع منك البيعة ونلغي الصلح وترجع الامور لنصابها القديم وتدار فتنه الرحى , والله اعلم .  
إن ما قدم عليه الحسن رضي الله عنه من تنازل للخلافة ابتغاء الإصلاح وحقن الدماء يدل على سمو أخلاق, ورحمة بالمؤمنين, قلّما توجد في شخص, لكنها نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم الذي بشّر بأن ابنه الحسن يصلح الله على يديه بين طائفتين من المسلمين, وكان ذلك بالفعل
 ومن الملفت للنظر هنا أن نلاحظ أنه  الجزاء من جنس العمل , فعمل تنازل الامام الحسن بن علي كان جزائه اتكون خلافة اخر الزمان من نسل الامام الحسن بن علي   , قال الإمام بن القيم الجوزية بعد إسراده لحديث فيه أن الامام المهدي الذي يخرج في آخر الأمة هو من نسل الحسن: ( و في كونه من ولد الحسن سرٌّ لطيف، و هو أن الحسن ترك الخلافة لله، فجعل الله من ولده من يقوم بالخلافة الحق المتضمن للعدل الذي يملأ الأرض. و هذه سُنَّة الله في عباده، أنه من ترك لأجله شيئاً، أعطاه الله أو أعطى ذريته أفضل منه). و الله أعلم  .