طورهان المفتي


المتابع للخارطة الجيوسياسية للشرق الاوسط تأخذه الدهشة لسرعة التغيرات الجارية خلال العقدين الماضيين ، فالإنقلاب على اسس ومبادىء ترسخت بعد انهيار الدولة العثمانية كانت السمة الابرز لهذه التغيرات، والتي قادت الى نمووظهور ايدلوجيتين في الشرق الأوسط هما :

الايديولوجية القومية

انطوت تحت هذه التسمية دول مثل ( تركيا ، الدول العربية ، ايران ) اضافة الى الحركات الكردية القومية .

الايديولوجية الدينية

انضوت تحت هذه التسمية حركات واحزاب لم تتسلق الى السلطة مع احتفاظها بقاعدة جماهرية لا باس بها وهي في الدول العربية بشكل خاص 

ما يخص الدول العربية فقد كانت أسرائيل تشكل القضية المركزية والمحرك الأساسي لهذه الدول، حيث ربطت الدول العربية نهوض الامة العربية بزوال اسرائيل وكيانها الصهيوني ، كما قامت الدول العربية بدعم الحركات الدينية الناعمة في بلدانها بشريطة المعاداة لاسرائيل وان يكون هذا الموضوع احد متبنيات الحركات الدينية . تركيا وايران ( في نفس الفترة وذلك بعد انتهاء الحروب العالمية ) فالموضوع اختلف هنا ، فهذه الدول بنت اسسها ضمن محتوى ( قومي – دولي ) متجاهلة بذلك موضوع فلسطين واسرائيل والعمل على انشاء علاقات طيبة وحتى وثيقة مع طرفي الصراع في الجغرافية الفلسطينية. بكل تأكيد كانت هناك ايديولوجيات اخرى لم تكن اقل اهمية من ما ذكرناها ولكنها لم تستطع ان تتسلق اوان تكون لها جغرافيات ممتدة وسلطة بها مثل الحركات الشيوعية في المنطقة . الى هنا كانت المنطقة مستقرة نوعا ما وذلك باعتبارات منشئة لدول المنطقة والتي اعتمدت على الاسس القومية بصورة رئيسة.

بداية التغيرات

اولى تصدع الايديولوجيات في المنطقة كانت في ايران ، فمع قيام الجمهورية الاسلامية في ايران ترنحت اولى عروش الفكر القومي في المنطقة ، ليعقب ذلك مجيء مجيء توركت اوزال الى سدة الحكم في تركيا والذي كان لبرالياً بخلفية اسلامية ، ليقوم اوزال باجراءات ناعمة لاعادة تركيا الى الصبغة الاسلامية ولتتكلل ذلك مع وصول نجم الدين اربكان الى السلطة كأول حكومة اسلامية في دولة (علمانية – قومية). ليستمر بعد سنوات منه الاتجاه ( السياسي – الاسلامي) في تركيا وليترنح عرش قومي اخر في المنطقة. ان هذه التغييرات في بلدان مهمة وذات عمق سياسي كبير اعطى مؤشرا سريعا بظهور الايدولوجية الدينية فوق القومية والذي سوف يؤثر بشكل جدي في كل دول المنطقة فيما بعد .

وهنا علينا ان لا نتغافل من احتمالية وجود قوى كبرى ساعدت في تسلق الاسلاميين في تركيا لخلق توازن مذهبي واعطاء صبغة غير احادية للمنطقة دينيا ومذهبياً، وذلك رداً على نجاح الثورة الاسلامية في ايران والتي بينت بامكانية اسقاط العروش القومية والتي كانت تعتبر من الامور شبه المستحيلة هناك. اما لبنان فقد سبقت كل دول المنطقة في تحويل الفكر القومي الى افكار محلية قطاعية وتم تحييدها واشغالـــــــــها في غالبية الاوقات وفق هذه المتغيرات القطاعية.

المشهد الراهن

بالرجوع الى الخارطة العربية نرى بأن هناك دول ربطت اسماءها بالقومية العربية مثل (مصر ، سوريا ، السعودية ، الامارات ) ، وهناك دول مثل العراق ذات شعور قومي وتعلق روحي متوارث بالقضية الفلسطينية، من هذا المنطلق ادرك اصحاب الارادات الدولية بان القضية الفلسطينية قضية قومية اكثر مما هي قضية دينية اوحتى مسألة انسانية بالنسبة للدول العربية فالشعار العربي لقضية فلسطين لدى هذه الدول هي (فلسطين عربية – عروبة فلسطين )، وليست فلسطين اسلامية ( وهذه كانت اولى خطوات الانسلاخ لبعض الدول الاسلامية من قضية فلسطين واتخاذ هذا الشعار حجة للابتعاد) ، وحيث ان دول المواجهة عربية باعتبارات جغرافية فكان لا بد من وسيلة لتحوير الايدولوجية القومية المحافظة للدول العربية الى ايدولوجية ( ثقافية – اجتماعية ) مع التلويح في حال الممانعة بنموحركات دينية في هذه الدول والتي سوف تؤدي بهم الى ما لا يحمد عقباه ، واستغلت هذه الارادات الكبرى ( وقد يكون باتفاق مع اركان النظام السابق ) رعونة وضحالة واجرام النظام السابق للدفع الى اسقاطه سنة 2003، فكان ما كان من غرق العراق بمستنقع الارهاب وتحجيم دور العراق عربيا وعدم فسح المجال امام النظام الجديد في العراق للاستقرار واستيعاب الدور الريادي للعراق في المنطقة ومن ثم نبذ التغيير الذي حصل في العراق وتصويره فوضوياً لاعطاء امثولة مخيفة لبقية الدول فيما اذا لم تتحور ايديولوجيا.

ليعقب ذلك ما سمي بـ( الربيع العربي) لتسقط سوريا عربياً وليست كدولة اوحكومة، لينتهي الدرع العربي للقضية الفلسطينية حيث ان الدول المجاورة لفلسطين اصبحت اما ذات علاقة دبلوماسية مع اسرائيل اوغارقة في مشاكلها الداخلية حد النخاع.

الخوف الديني ام الخوف الاسرائيلي؟

امام هذه المتغيرات السريعة اصبحت دول الخليج امام مفترق طرق في محركاتها القومية والخوف من المد الديني اومن اسرائيل فكانت النتيجة بكل سهولة ان ترجح كفة الخوف باتجاه المد الديني. ولتبدأ دول الخليج بالمصالحة مع اسرائيل ولينتهي ذلك التردد في صدورهم ولتخرج العلاقات من السر الى العلن .

المتغيرات القادمة

الان وبعد الخطوات الخليجية باتجاه اسرائيل فان جيوسياسية المنطقة اختلفت بشكل كبير جدا، فالجمهورية الاسلامية الان اصبحت محاطة بدول تمتلك علاقات مع اسرائيل من جميع اطرافها فيما عدا العراق . لغرض مضايقة ايران في المقعد الجيوسياسي الفريد والبعد الجغرافي المتميز وذلك في لعبة المونوبولي الشرق اوسطية مع اسرائيل . تركيا فقد سيطر عليها نزاع (سنيسني ) الى جانب أنشغالها بالجانب الإقتصادي، مايعني إمكانية رضوخها في وقت لاحق لشروط الارادات الكبرى المتحكمة بقواعد اللعبة في الشرق الأوسط لضمان أمن إسرائيل الدولة والكيان، وهذا الأمر غير مستبعد في غضون المستقبل القريب.العراق وسوريا يختلفان برغم تشابه الموقع الجغرافي، حيث تحيطهما دول ذات علاقة مع اسرائيل. الا ان الاختلاف يكمن في سايكولوجية المجتمع العراقي اتجاه القضية الفلسطينية والتي هي اقرب الى مسألة مبدأ منها الى مسألة قومية اوسياسة ، وعلى هذا الاساس ستتشكل ضغوطات مختلفة على العراق مع فارق واضح حتى بالنسبة لايران وحتى سوريا. والذي ينبىء بنشوء نوع جديد من الصراع في العراق لا نعلم مستقره اومنتهاه. ولكي يخرج العراق سليماً معافى في عصر سياسي مرتبك وملتبس قل نظيره عالمياً ، نرى ان يكون هناك تسكين وتهدئة سياسية داخل البيت العراق ليتمكن العراق حكومة وشعبا وحركات سياسية من تجاوز هذه الفترة المعقدة بكل معنى الكلمة وان لا تثقل كاهل العراق صراعات جديدة في وقت مازال بأمس الحاجة الى معالجة وتخطي سلسلة الصراعات التي يعاني منها حاليا.