هيثم الزبيدي
الخيلاء الإمبراطورية، كما نراها اليوم، صارت تخنق أفكار دول كبرى في الشرق الأوسط. هي خيلاء خطيرة لأنها تأخذ مصائر هذه الدول، ومعها المنطقة، إلى المجهول.
الركض وراء أوهام الإمبراطورية العثمانية
وصلت بريطانيا إلى غاية الدراسات العليا أواخر الثمانينات. كنت ابن جيل تربى على الزهو الوطني والقومي. لا تستطيع أن تفكر في شيء إلا في سياق الحضارة العربية الإسلامية وما حققته. النسخة من مادة التاريخ التي تدرسها في المدارس كانت “معقمة” جدا؛ أمجاد لا تنتهي، لكنْ هناك مؤامرات وغزو أجنبي واستعمار. ثم جاءت الدولة الوطنية الحديثة.
أمجاد الدولة العربية الإسلامية قديمة نسبيا. لا أعرف هل يمكن رسم حد لها عند بداية العصر العباسي الثاني، أي بانطلاقة سيطرة العسكر الأتراك على الخليفة العباسي في بغداد وسامراء، ثم سلسلة الدول التي صارت تتحكم في مصير الشرق؟ بويهيون و”خروف أبيض” و”خروف أسود” وسلاجقة ومغول وصولا إلى الدولة العثمانية. ربما هذه دول كبرى وعظمى إسلامية، لكن لا يمكن لعربي أن ينتسب إليها بسهولة. فجرح سقوط بغداد عام 1258 على يد المغول يبقى نازفا.
أثناء الحديث مع زملاء الدراسة في الجامعة في لندن، كنت أستعيد أمجاد وإنجازات الحضارة العربية الإسلامية، في بغداد ودمشق والقاهرة وأفريقية (المغرب الأدنى) والمغرب الأقصى والأندلس. كانوا ينتبهون لما أقول بدافع الرغبة في المعرفة التاريخية، ولكنهم ما كانوا يتعاطفون مع إحساس الزهو المصاحب للكلام. كأنهم كانوا يقولون: وما علاقتك أنت؟ هناك انقطاع تاريخي بينك وبينهم. احترت في أمرهم وما عدت أعرف كيف أبرر زهوي.
مصدر الحيرة الأكبر كان مع زملاء إنجليز وألمان وفرنسيين وبرازيليين وروس. خذ زميلي الإنجليزي المؤصل أبا عن جد. الإمبراطورية البريطانية تراجعت قبل سنوات قليلة. كانت مترامية الأطراف بكل ما تعنيه الكلمة. “الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس” اسم ووصف دقيقان. تشرق الشمس في نيوزيلندا وتغيب على حافات كندا. تمر على أستراليا وهونغ كونغ وماليزيا وبورما وشبه القارة الهندية والشرق الأوسط وقبرص ومالطا وأفريقيا وبريطانيا نفسها لتعبر إلى كندا. لكنه، لا هو ولا أي زميل إنجليزي آخر، كان يتحدث عن زهوه بهذه الإمبراطورية. اكتشفت أن الكثير من مناهج التعليم تغيرت في المدارس البريطانية لتتلاءم مع الحجم المنكمش للإمبراطورية. كان الهدف نزع صيغة الأوهام من عقل التلاميذ لكي يتأقلموا مع عالم جديد دولتهم فيه مهمة ولكنها ليست عظمى.
اكتشفت أن هناك حالة مشابهة موجودة تقريبا عند الزملاء الأوروبيين. بل إن التعليم يذكّر بجرائم الاستعمار والنازية ويحث على عدم تكرارها. الزهو الإمبراطوري ممنوع حتى لو أن كثيرا ممن تلتقي بهم في الشارع والعمل والمقهى هم ممن عاصروا المراحل الأخيرة من العصور الإمبراطورية للدول الأوروبية الكبرى. بعض الزملاء مولودون في دول المستعمرات أصلا. تعلمت الدرس جيدا وصرت أتحدث عن الإنجازات الحضارية لعالمنا ضمن سياق إنساني.
الخيلاء الإمبراطورية، كما نراها اليوم، صارت تخنق أفكار دول كبرى في الشرق الأوسط. هي خيلاء خطيرة لأنها تأخذ مصائر هذه الدول، ومعها المنطقة، إلى المجهول. تأخر الوقت بالنسبة إلى دولة مثل إيران لكي تستعيد عافيتها. هي الآن منغمسة بما لا يقبل العلاج في الوهم الفارسي. ونشهد، منذ 10 سنوات على الأقل، صعود الخيلاء الإمبراطورية التركية. بلد مهم وكبير ومؤثر مثل تركيا، يمكن أن يدمر 100 عام من البناء والتنمية، في الركض وراء أوهام الإمبراطورية ومحاولة استعادتها. لا نعرف هل بلغت تركيا نقطة اللاعودة أم لا. لكن ما نعرفه أن الخيلاء وصفة للكوارث.
0 تعليقات
إرسال تعليق