علي الصراف
لقد صار الفلسطيني، بفضل سلطته، يستحي من فلسطينيته. بل يهرب منها، ليبحث عن لجوء.
كم اتسعت الأرض للصراخ من أجل الحرية
الناظر إلى القضية الفلسطينية من ثقبها المقدس، وأغلب الناس يفعلون، لا يستطيع أن يتخيل أن سلطة ذاك المقدس يمكن أن يدنسها شيء من قضايا الدنيا الصغيرة، مصالحها، امتيازاتها، أو غير ذلك. لا يمكنه أن يتخيل أن يقتل الفلسطيني أخاه، ولا أن يعتقله أو يعذبه، أو يحرم عائلته من رزقها، أو أن ينظر إليه على أنه “آخر”.
قبل أن يتحول الفلسطيني إلى عدو لنفسه، كان لديه عدو مختلف. ولقد نجحت سلطة العشيرة (الفتحاوية تارة، والحمساوية تارة أخرى) في أن تعيد النظر في العداوات، وكان ذلك واحدا من أبرز إنجازاتها على الصعيد اللاوطني؛ صعيد الإنجاز العشائري لتفلت السلطة عن “قضيتها”.
صارت السلطةُ، هي القضية. ومن أجلها فليتنافس المتنافسون. يعدون القوائم، ويحيكون المؤامرات، ويحسبون المقاعد، ويدققون في حسابات الرواتب والامتيازات، وإذا نبت من بين أصابعهم ناتئ، قطعوه. أرسلوه إلى السجن أو المنفى، أو حتى قتلوه.
لم تعد القضية الفلسطينية في حسابات “السلطة” التي تعمل من أجل نفسها، إلا ذريعة، إلا كذبة، إلا خدعة من مخادعات الشعار المقيت.
يوما ما، كانت تلك القضية قضية شهداء. شبان وشيوخ، رجال ونساء، يفتدون حياتهم من أجل أرض.
وكم اتسعت تلك الأرض للصراخ من أجل الحرية. كم اتسعت لصليات الرصاص من البنادق. وكم اتسعت للعذابات التي يتردد صداها من أقصى بقعة في الخارطة العربية إلى أقصاها. وكنا نعرف الشهداء بالاسم والصورة، حتى امتلأت الجدران في بغداد، بمقدار ما امتلأت في بيروت وعمّان وغيرها من مدن الصدى. والآلاف من أبنائها ذهبوا إلى فصائل القضية ليتطوعوا بدمائهم، وحلمهم أن يتحولوا إلى صورة على جدار، أي جدار، وأن يخلد الاسم في ذاكرة فتاة ربما، آثرت أن تعشق ملح الأرض في الذين يقضون من أجلها، وأن تتغزل بالبندقية التي يحملها الشهيد.
كانت البطولة مثيرة، وتهز الأركان حتى العظم. وما من فلسطينية، إلا وعلقت فدائيا أو مناضلا في رقبتها حتى وهي تعرف أنه إذا ذهب، فقد لا يعود. وتظل تنجب، لأنها تعرف أن الأرض ما تزال تتسع لشهداء جدد، وأن سجون الاحتلال ظلت تملك كل الوقت، حتى وهي تفيض بعشرين مؤبدا أو يزيد لكل سجين. وما كان الشهداء إلا نذورا، تُقدم لآلهة الأرض لعلها ترضى.
بالأمس، عانقت فلسطينية خطيبها بعد 18 عاما في سجون الاحتلال. انتظرته كل ذلك الوقت. كانت تعشق فيه الخسران. تعشق فيه السجن، لتنتظر الحرية. علقت حريتها على شماعة الصبر، لترى في الحبيب حبيبا يزرع الحرية، ولو ظل يحصدُ المرارة والحرمان. ولكن في اليوم ذاته، كانت سلطة العشيرة في رام الله تعتقل رفاقَ مرارةٍ آخرين، لكي تُبعدهم عن قوائم انتخابات العشيرة.
في اليوم ذاته، والذي سبقه، والذي سيليه، لم تكن سلطة العشيرة لتخشى من أن تكون سلطةً تقدمُ النذورَ لنفسها، فتعتقل وتعذب وتقتل فلسطينيين آخرين. لتظل الحيرةُ معلقةً، كالعُقد على صدر المقدس: أفهل تنتظر؟ أفهل أصبح الدم ماء؟ أم هل سقط المقدسُ عن نفسه، وسقطت الأرض على سقفها؟
إنها سلطة العشيرة التي أشرعت أبوابَها للفضيحة، وأغلقتْ الثقبَ الذي ظل أغلب الناس منه ينظرون إلى “القضية”.
مقدسُ السلطة لم يعد فلسطين. لم يعد الأقصى. لم يعد أي شيء من الكذبة التي لا تنتهي. مقدسُ السلطة اليوم هو السلطةُ نفسها. هو العشيرة، التي وضعت “الوطنية” و”القومية” على رف النسيان. أو لتكون ريشة يضعها الحاكم، أو المتحدثون باسمه، على رؤوسهم للزينة.
الفلسطيني قبل أن يتحول إلى عدو لنفسه كان لديه عدو مختلف، ولقد نجحت سلطة العشيرة الفتحاوية والحمساوية في أن تعيد النظر في العداوات وكان ذلك واحدا من أبرز إنجازاتها
إنها سلطة عار، حتى على نفسها. ولكنها لا تخجل مما فعلت. وتظل تعتقد أن الفلسطيني عندما يعتقل أخاه أو يقتله، في خلاف في الرأي أو المنهج، فإنما تخدم بقتله “القضية”. ومن ذا الذي يجرؤ أن يصرخ في وجه هذا القبح: أي قضية يا نَوَرْ؟ ماذا أبقيتم منها يا إخوة الفضيحة؟
لقد صار الفلسطيني، بفضل سلطته، يستحي من فلسطينيته. بل يهرب منها، ليبحث عن لجوء. وكل ما كان فخرا، أصبح عبئا يجدر بالمرء أن يهرب منه، ليبحث عن حياة أخرى، لا تأتي “القضية” في ذاكرتها، ولا حتى بالحنين.
أبو عمار، كان بعضا من آخر الفلسطينيين على وجه الأرض. ولقد رحل. كان يتصارع ويُجادل، ويقول إنه يقود رجالا وهم مسلحون. بمعنى، أنه وإن ظل يخالفهم في الرأي، وإن ظلوا يخالفونه، فإن اليد التي تمسك السلاح ما كانت لتمتد إلى زناد الأذى. كانت ثمة بقية للشرف. فلما رحل، رحلت معه.
وخير ما فعله محمود درويش هو أنه مات، لكي لا يرى ما يمكن أن يراه الآن. ولكنه رأى جانبا من العاقبة، فانتكست روحه قبل أن ينتكس قلبه.
موته كان واحدا من أعظم قصائده، منذ أن أدرك أن الفلسطيني لم يعد هو نفسه، وأن فتحاويا + حمساويا، لا يساوي اثنين، بل أقل من واحد.
“هل كان علينا أن نسقط من عُلُوّ شاهق،
ونرى دمنا على أيدينا… لنُدْرك أننا لسنا
ملائكة.. كما كنا نظن؟
وهل كان علينا أيضاً أن نكشف عن عوراتنا
أمام الملأ، كي لا تبقى حقيقتنا عذراء؟
كم كَذَبنا حين قلنا: نحن استثناء!”.
لم يعد الفلسطينيُ استثناءً، إنما بفضل سلطة العشيرة تلك التي لو كانت لديها ذرة حياء لاستقالت ولتبرأت من نفسها ولأطلقت العنان للناس لكي يعودوا كما كانوا مجرد شعب يبحث عن الحرية. ولكن سلطتهم صارت عشيرة ولكلّ منها نبي.
“لولا أن محمدًا هو خاتم الأنبياء، لصار لكل عصابةٍ نبيّ، ولكل صحابيّ ميليشيا”.
كان درويش يتساءل، من ثقب المقدس الذي ننظر منه: “ما حاجتنا للنرجس… ما دمنا فلسطينيين؟”. ولكنه انتهى ليرى الفضيحةَ التي لم تكف السلطةُ، السلطتان، الدولةُ – الوهمُ، أو الدولتان، عن أن تقدمها لفلسطين التي لم يعد يوجد بها أحد. حتى إذا ما أرادت العشيرة أن تستأنف المقاومة، لم ترَ أحدًا جاء، ولا أحدًا ذهب. فانفضّ الحفلُ على اعتقالات جديدة، وعلى حُمّى السلطةِ للحفاظ على نفسها، في مواجهة “العدو” الجديد، ولترفع الشعار العتيد:
“‘أنا والغريب على ابن عمِّي. وأنا وابن
عمِّي على أَخي. وأَنا وشيخي عليَّ’. هذا
هو الدرس الأول في التربية الوطنية الجديدة،
في أقبية الظلام”.
ويوم سأل سائلٌ درويش:
“هل أنا + أنا = اثنين؟
‘قلت: أنت وأنت أقلُّ من واحد'”.
فيا أيها القابعُ في أقبية السلطة، يا ابن الـ.. عشيرة، والفاحشة، لا تقل إنك فلسطيني. ولا تقل إن قضيتك مقدسة، “أنت، منذ الآن، غيرك”، وما من صلة تربطك لا بالزعتر والزيتون، ولا بالنرجس.
ولقد خدعتَ الملايين، وغررتَ بالكثير من الأسماء والصور، وسكبتَ الدماء في بالوعة سلطتك وحدها، حتى تُطلق سراح كل الذين اعتقلتهم، وحتى تتبرأ السلطةُ من نفسها، وحتى تستقيل لتترك للناس أن يعودوا كما كانوا مجرد ضحايا لاحتلال واحد، لا احتلالين. يقاومونه كيفما شاءوا، أو لا يقاومونه، هذا شأنهم هم وحدهم، وليس شأنك، لأنك لست أنت. لست ما تدّعيه. ولست ممن تصدقه آلهةُ الأرض، ونذورُك ليست كالنذور.
0 تعليقات
إرسال تعليق