عمر سعد سلمان
يتمتع نعوم تشومسكي بشهرة كبيرة في العالم العربي، ككاتب يعمل على فضح السياسات الخارجية للولايات المتحدة الامريكية وحلفائها، وكعالم لسانيات أسس لنظرية القواعد التوليدية. على ان تشومسكي ايضاً فيلسوف من الطراز الأول، كتب في الفلسفة السياسية ونظرية المعرفة وفلسفة الرياضيات والمنطق ومشكلة العقل والجسد وغيرها من المواضيع الفلسفية التقليدية.
يمكن تلخيص وجهة نظر تشومسكي الفلسفية في الحرية كما يلي:
(يؤمن تشومسكي بأن جميع البشر يولدون بغرائز رئيسية فطرية تشكل جزءاً من الطبيعة البشرية المشتركة بين جميع الناس. من هذه الغرائز، غريزة اللغة، وغريزة الحرية). يرفض تشومسكي وجهة النظر القائلة بأن الانسان ابن بيئته وثقافته، وانه يتشكل من داخل هذه الثقافة فقط. لماذا؟ لأنه يرى اننا لا نستطيع ان ننكر وجود بنية فطرية في الدماغ تسمح لنا بتلقي المعلومات والخبرة من البيئة المحيطة بنا. ان لم تكن مثل هذه البنية موجودة ومحددة بيولوجياً منذ الولادة، لما استطعنا تلقي أي معلومات من البيئة. لا يوجد ان خيار آخر، ولا يوجد أدنى احتمال بعدم وجود مثل هذه البنية: عدم وجود بنية تسمح بتلقي الخبرة، يعني عدم القدرة على تلقي الخبرة: انكار هذه البنية هو لغو فارغ غير معقول على الاطلاق.
على ان تشومسكي يعتقد اننا لم نبلغ بعد المرحلة التي نستطيع فيها ان نفهم هذه البنية: في اللغة، حققنا بعض التقدم مع دراستنا عن القواعد التوليدية، ولكننا لم ننجح بعد بربط هذه القواعد بالبنى الدماغية. في علوم الاجتماع والسلوك والنفس يرى تشومسكي ان معرفتنا تكاد تكون معدومة. لذلك، يقول اننا يجب ان نؤمن بوجود غريزة الحرية. وأكثر من ذلك، يعتقد ان بعض هذه الأسئلة حول طبيعة الانسان تقع خارج متناول العقل البشري، وكل ما يمكن فعله هو ان نراهن على وجود هذه الغريزة، التي تتمظهر في تحركاتنا وافعالنا كافة، ونشعر بها دوماً كمحرك لأفعالنا وامنياتنا وآمالنا.
تكمن احد ابرز إنجازات تشومسكي في الفلسفة السياسية فيما يلي: ربط تراث ديكارت بتراق باكونين بأقطاب الليبرالية الكلاسيكية والاشتراكية: اقطاب الفوضوية كباكونين وكروبوتكين، بالإضافة الى برتراند راسل، ومؤسسي الليبرالية الكلاسيكية كهمبولت وروسو، دافعوا عن مفهوم انسانوي للطبيعة البشرية. تقوم فكرتهم على ما يلي: هناك طبيعية خلاقة، فطرية، حرة وغنية، يجب اطلاقها كي يعيش البشر بسعادة. باكونين، أشهر الفوضويين، آمن بوجود غريزة اصلية في كل البشر، هي غريزة الحرية. يجد تشومسكي ان الملكة اللغوية فطرية، وخلاقة ايضاً، وهو امر قال به ديكارت. ويجادل بأن معظم قدرات البشر الادراكية فطرية وخلاقة معاً. يتيح هذا لتشومسكي ان يربط عقلانية ديكارت، التي تقوم على فكرة ان القدرات اللغوية للإنسان فطرية وغير محدودة بغريزة الحرية التي نادى بها باكونين.
في صراعنا اليوم من اجل الحرية، يشكل الايمان بأن كل الناس يتمتعون بغريزة الحرية، وبطاقات خلاقة حرة وغنية، وبأنهم يستحقون حياة أفضل من استعبادهم من قبل مجموعة طغاة كبار وصغار، محليين او أجانب، منطلقاً لصراعنا من اجل التحرر. الكلام عن خصوصيات ثقافية وعن نسبوية القيم لا يساعد على الاطلاق، بل على العكس، يبرر القمع والظلم في اغلب الأحيان. لا يوجد خصوصيات في المعارك من اجل الحرية. رؤية تشومسكي للفوضوية ولدور المثقفين، اللذين يرتبطان بدفاعه عن الحرية تتلخص بما يلي:
- الفوضوية: يراها الوريث الشرعي لليبرالية الكلاسيكية والاشتراكية معاً. تحرير قدرات الناس كان في صلب اهتمامات الليبراليين الأوائل، على انهم لم يدركوا أن راس المال سيتحكم بالناس بطريقة مشابهة لما تفعله الدولة او الكنيسة في زمنهم. هذا ما رآه ماركس والاشتراكيون بوضوح في القرن التاسع عشر. الجمع بين تحرير الناس اقتصادياً، ورفض استعبادهم من قبل الدولة كما فعل الاتحاد السوفيتي، هو ما يميز الفوضوية. ويعتقد ان أحد اشكال الفوضوية او الاشتراكية التحريرية، ستساعدنا في التحرر الفعلي من ليبرالية اقتصادية متوحشة اكتسحت عالمنا، وهي التي ترفض استعباد الناس باسم الاشتراكية، كما حصل في الاتحاد السوفيتي على يد لينين وتروتسكي وستالين، وفي غيره من البلاد التي تبنت هذا النموذج، بما فيها بعض البلاد العربية.
- دور المثقفين: يجادل تشومسكي بأن على جميع الناس مسؤولية تغيير المجتمع والعمل على رفع الظلم. على ان للمثقفين دوراً خاصاً، حيث يتمتع هؤلاء بفرصة أكبر لرؤية الحقائق كما هي، ويتمتعون بمكانة وحصانة نسبية تتيح لهم ان يجدوا جمهوراً يصغي إليهم. ويهاجم تشومسكي الكتابة الغامضة المتعالية ويرفض تيارات النسبوية وما بعد الحداثة، والهجوم على العقل والعلم، التي انتشرت في السنوات الخمسين الأخيرة، بل ويراها متحالفة في العمق مع السلطات القامعة.
0 تعليقات
إرسال تعليق