شاءت إرادة الخالق أن يكون كمالنا عاجزا، وأن يعتور تمامنا البشري النقص من كل جانب، فلا تكاد تقع عينك على مليح إلا وأدركت فيه عيبا أو نسيجا ناعما إلا ولمست فيه خيطا مشدودا أو عقدة منسية. وأكثر ملامح قصورنا البشري تتبدى في العقل الذي لا تكتمل بداخله صورة إلا وكساها الغمام، ولا تتضح أمامه رؤية إلا وغطاها الضباب. ومن مظاهر عجز هذا العقل الذي ابتلينا به وابتلي بنا تلك الرغبة المحمومة في تفسير شذرات الأحداث ومتفرقات الوقائع تفسيرا مستقلا عما سبقها أو تلاها، ومحاولة فهم مغزاها في استقلالية تامة عن ملابسات الزمان والمكان.
فإذا تعرض أحدنا لتجربة مؤلمة صهرته، أو مر في حياته بأشخاص سلبوا أمنه واتزانه وبراءته، أو فقد حبيبا أو مات له قريب، أو تعرض للسجن أو الاعتقال أو المهانة، تراه يرفع عقيرته معترضا على حكم السماء كما فعل إبليس ذات غواية متسائلا عن الحكمة من طرده من رحمة الرب التي وسعت كل شيء إلا هو، وسر رضا الإله عما يحدث له من نكبات لا يقوى على احتمالها.
نحاول أن نجد تفسيرا مقنعا لحلقات الأحداث التي تمر بنا، ناسين أو متناسين ما يسبقها وما يليها من حلقات. فنندهش مع موسى لتصرفات العبد الصالح الذي يخرق سفينة قوم أحسنوا إليهما، ويقتل طفلا في ريعان الأمل غير عابئ بمأساة أبيه ولوعة أمه، ويبني جدارا لقوم لم يكرموا وفادتهما. ولا نرتاح إلا حين يأتينا التفسير المؤقت الذي خفي علينا، فنطبق أفواهنا المفغورة بعد أن نعلم حكمة الرب من وراء ذلك. لكننا لا نعي الدرس وراء تلكم الأحداث، ولا نتساءل عما خلفته تلك التجارب من دروس في نفس موسى وفتاه، ولا نسأل عما تراه حل بموسى بعد أن عاد من رحلته التثقيفية المدهشة ليمارس طقوسه القديمة كلها دون أن يدرك حكمتها.
لطالما تساءل الناس عن سر تعذيب الرسل والأنبياء، وكونهم الأكثر ابتلاء على مر العصور. وتجرأ البعض في قحة ظاهرة، فاتهموا الرب بالغياب عن مجريات الأحداث، بل وأسرف بعضهم فقال إن الرب خلق هذا الكون ثم مات وتركه.
لماذا سمح الرب بإلقاء يوسف في قاع الجب؟ ولماذا ترك البغاة يلقونه في غيابات الغواية والسجن؟ صحيح أن يوسف قد أصبح عزيز مصر في الفصل الأخير من الحكاية، لكن الصحيح أيضا أنه ذاق مرارة النوم فوق بلاط السجن البارد وربما دون غطاء لعدة سنوات. ومن يدري كيف عامله حراس السجن غلاظ الأكباد والأكف حينئذ، وهل كان ينام طاويا دون أن تمتد له يد بلقمة أو شربة ماء باردة.
لماذا سمح الله بقتل أنبياءه وقطع رؤوسهم؟ لماذا سمح الله لحاكم فاسد بقطع رأس يوحنا العمدان حتى تهدى في طبق لغانية؟ ولماذا لم يدافع عن رأس الحسين ورقبة مالك، ولماذا سمح بهزيمة أحب خلقه إليه وكسر رباعيته في أحد؟ لماذا لا يضع الله حدا للطغيان في هذا العالم، ولماذا لا يدافع الله عن الفقراء والمشردين واللاجئين أو زمهرير الحدود عليهم على أقل تقدير؟ لماذا ينتصر الطغاة في هذا العالم، ويتراجع المصلحون، فلا ينتصر حق على باطل ولا يظهر مؤمن على كافر؟ وما ذنب الأطفال الذين يدفنون تحت حمم الطائرات المسيرة قبل أن ينطقوا حروفهم الأولى؟
لماذا يسمح الله للتجارب أن تلوث أرواحنا، ويمكن الشيطان من رقابنا حتى نخر له راكعين؟ ولماذا يتركنا فرائس للغواية ويجعلنا أسرى للتفاصيل حتى نضل ونخزى؟ لماذا لا يدافع الله عن المسحوقين في مشارق الأرض ومغاربها؟ ولماذا لا يضع حدا لاستهتار البغاة الذين ملأوا العالم فسقا وفجورا ودماء وأشلاء؟ ولماذا يخلق الحمل إن كان مصيره أن يتحول إلى نتف صغيرة بين أسنان ذئب جائع؟
ولماذا يجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ هكذا تساءلت الملائكة ذات حيرة، وكأنهم يعانون من نفس مركب النقص الذي عانينا منه منذ النفخة الأولى في طيننا اللازب – الرغبة في فهم الغايات الكلية من خلال استنطاق أحداث مرحلية في تاريخ العالم والكون. وكأنهم ظنوا أن الغرض الأسمى من الخلق هو أن يقوم المخلوقون بعبادة الخالق، وعليه أن يكتفي بتسبيحهم وتقديسهم "ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك".
لم يدرك الملائكة ولا إبليس ولا آدم حتى السر وراء خلقه، فليس على الخالق أن يفشى سره لأحد وإن كان من الملائكة المقربين "إني أعلم ما لا تعلمون". فاكتفى الملائكة بالجواب، لكن الشيطان الذي أراد أن يفهم حكمة الخالق وأن يشاركه الرأي والمشورة، كان مصيره الطرد من الرحمة وإلى الأبد. أدرك الملائكة قصر إدراكهم وقلة حيلتهم "لا علم لنا إلا ما علمتنا"، فخروا ساجدين لهذا المخلوق المحكوم بالفساد.
التسليم إذن هو خير ما يمكن أن يفعله العبد حيال قضاء ربه. ربما يخرق أحدهم سفينة قلبك، كي لا تضل وتشقى، وربما تفقد أحدهم لأن في بقائه إلى جوارك شر لك في دينك ومعاشك وعاقبة أمرك. لكل شيء حكمة يخفيها الخالق عنا ليختبر صبرنا وإيماننا وثقتنا به، وهو ليس مضطرا لتفسير كل الأحداث لنا، فلسنا آلهة على أي حال، وليس لنا أصدقاء كالعبد الصالح يبينون لنا ما خفي علينا من حكم. التسليم لله وحسن الثقة بقضائه وقدره كفيلان إذن بإراحة قلبك وتهدئة عقلة وتجنيبك مزالق قصورك العقلي المخجل، فلا تحاول يا صديقي التعالي على حدود نقصك، وحاول قد ما تستطيع أن ترفع رأسك قدر المستطاع فوق لجج الأحداث، لعلك تفهم حكمة ما يحدث لك، فتعود أكثر طهارة وبراءة ونقاء من كل تجربة مهما كانت قسوتها.
فإذا تعرض أحدنا لتجربة مؤلمة صهرته، أو مر في حياته بأشخاص سلبوا أمنه واتزانه وبراءته، أو فقد حبيبا أو مات له قريب، أو تعرض للسجن أو الاعتقال أو المهانة، تراه يرفع عقيرته معترضا على حكم السماء كما فعل إبليس ذات غواية متسائلا عن الحكمة من طرده من رحمة الرب التي وسعت كل شيء إلا هو، وسر رضا الإله عما يحدث له من نكبات لا يقوى على احتمالها.
نحاول أن نجد تفسيرا مقنعا لحلقات الأحداث التي تمر بنا، ناسين أو متناسين ما يسبقها وما يليها من حلقات. فنندهش مع موسى لتصرفات العبد الصالح الذي يخرق سفينة قوم أحسنوا إليهما، ويقتل طفلا في ريعان الأمل غير عابئ بمأساة أبيه ولوعة أمه، ويبني جدارا لقوم لم يكرموا وفادتهما. ولا نرتاح إلا حين يأتينا التفسير المؤقت الذي خفي علينا، فنطبق أفواهنا المفغورة بعد أن نعلم حكمة الرب من وراء ذلك. لكننا لا نعي الدرس وراء تلكم الأحداث، ولا نتساءل عما خلفته تلك التجارب من دروس في نفس موسى وفتاه، ولا نسأل عما تراه حل بموسى بعد أن عاد من رحلته التثقيفية المدهشة ليمارس طقوسه القديمة كلها دون أن يدرك حكمتها.
لطالما تساءل الناس عن سر تعذيب الرسل والأنبياء، وكونهم الأكثر ابتلاء على مر العصور. وتجرأ البعض في قحة ظاهرة، فاتهموا الرب بالغياب عن مجريات الأحداث، بل وأسرف بعضهم فقال إن الرب خلق هذا الكون ثم مات وتركه.
لماذا سمح الرب بإلقاء يوسف في قاع الجب؟ ولماذا ترك البغاة يلقونه في غيابات الغواية والسجن؟ صحيح أن يوسف قد أصبح عزيز مصر في الفصل الأخير من الحكاية، لكن الصحيح أيضا أنه ذاق مرارة النوم فوق بلاط السجن البارد وربما دون غطاء لعدة سنوات. ومن يدري كيف عامله حراس السجن غلاظ الأكباد والأكف حينئذ، وهل كان ينام طاويا دون أن تمتد له يد بلقمة أو شربة ماء باردة.
لماذا سمح الله بقتل أنبياءه وقطع رؤوسهم؟ لماذا سمح الله لحاكم فاسد بقطع رأس يوحنا العمدان حتى تهدى في طبق لغانية؟ ولماذا لم يدافع عن رأس الحسين ورقبة مالك، ولماذا سمح بهزيمة أحب خلقه إليه وكسر رباعيته في أحد؟ لماذا لا يضع الله حدا للطغيان في هذا العالم، ولماذا لا يدافع الله عن الفقراء والمشردين واللاجئين أو زمهرير الحدود عليهم على أقل تقدير؟ لماذا ينتصر الطغاة في هذا العالم، ويتراجع المصلحون، فلا ينتصر حق على باطل ولا يظهر مؤمن على كافر؟ وما ذنب الأطفال الذين يدفنون تحت حمم الطائرات المسيرة قبل أن ينطقوا حروفهم الأولى؟
لماذا يسمح الله للتجارب أن تلوث أرواحنا، ويمكن الشيطان من رقابنا حتى نخر له راكعين؟ ولماذا يتركنا فرائس للغواية ويجعلنا أسرى للتفاصيل حتى نضل ونخزى؟ لماذا لا يدافع الله عن المسحوقين في مشارق الأرض ومغاربها؟ ولماذا لا يضع حدا لاستهتار البغاة الذين ملأوا العالم فسقا وفجورا ودماء وأشلاء؟ ولماذا يخلق الحمل إن كان مصيره أن يتحول إلى نتف صغيرة بين أسنان ذئب جائع؟
ولماذا يجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ هكذا تساءلت الملائكة ذات حيرة، وكأنهم يعانون من نفس مركب النقص الذي عانينا منه منذ النفخة الأولى في طيننا اللازب – الرغبة في فهم الغايات الكلية من خلال استنطاق أحداث مرحلية في تاريخ العالم والكون. وكأنهم ظنوا أن الغرض الأسمى من الخلق هو أن يقوم المخلوقون بعبادة الخالق، وعليه أن يكتفي بتسبيحهم وتقديسهم "ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك".
لم يدرك الملائكة ولا إبليس ولا آدم حتى السر وراء خلقه، فليس على الخالق أن يفشى سره لأحد وإن كان من الملائكة المقربين "إني أعلم ما لا تعلمون". فاكتفى الملائكة بالجواب، لكن الشيطان الذي أراد أن يفهم حكمة الخالق وأن يشاركه الرأي والمشورة، كان مصيره الطرد من الرحمة وإلى الأبد. أدرك الملائكة قصر إدراكهم وقلة حيلتهم "لا علم لنا إلا ما علمتنا"، فخروا ساجدين لهذا المخلوق المحكوم بالفساد.
التسليم إذن هو خير ما يمكن أن يفعله العبد حيال قضاء ربه. ربما يخرق أحدهم سفينة قلبك، كي لا تضل وتشقى، وربما تفقد أحدهم لأن في بقائه إلى جوارك شر لك في دينك ومعاشك وعاقبة أمرك. لكل شيء حكمة يخفيها الخالق عنا ليختبر صبرنا وإيماننا وثقتنا به، وهو ليس مضطرا لتفسير كل الأحداث لنا، فلسنا آلهة على أي حال، وليس لنا أصدقاء كالعبد الصالح يبينون لنا ما خفي علينا من حكم. التسليم لله وحسن الثقة بقضائه وقدره كفيلان إذن بإراحة قلبك وتهدئة عقلة وتجنيبك مزالق قصورك العقلي المخجل، فلا تحاول يا صديقي التعالي على حدود نقصك، وحاول قد ما تستطيع أن ترفع رأسك قدر المستطاع فوق لجج الأحداث، لعلك تفهم حكمة ما يحدث لك، فتعود أكثر طهارة وبراءة ونقاء من كل تجربة مهما كانت قسوتها.
0 تعليقات
إرسال تعليق