بقلم: الكاتب والباحث السياسي
الدكتور أنمار نزار الدروبي
يقف العراقيون بمختلف مكوناتهم المذهبية والعقائدية والقومية والمناطقية على مسافة واحدة ضد التطرف والفكر التكفيري والعنف الإرهابي ليس إيديولوجيا فقط ولكن بالواقع الذي جعل للإرهاب دور فاعل في العراق وله يد في كل ما يحدث من إجرام وقتل، فأصبح مصير الشعب العراقي رهن الفكر التكفيري والجهة التي يعول عليها قطعان المجرم البغدادي زعيم دولة الأبالسة، لأن الطريق صار سالكا للإرهابيين الدواعش بل مزدحما بهؤلاء الجرذان. فلا يشيع الإجرام ولا يرتوي إلا إذا وجد أمامه مساحات من العجز الأمني والاستخباري والإهمال الحكومي، وحتى القبول والصمت من قبل فئة ضالة توفر البيئة الحاضنة لهؤلاء الإرهابيين، ومن هنا بات تعاطي الدولة مع جرائم داعش بصيغة ردة الفعل فقط. بالتالي نحن أمام نكسات وهزائم وإرهاب فكري مروع، فلا أحد يبحث عن الأسباب الموضوعية وراء عدم تمكن الدولة بكافة أجهزتها الأمنية وقواتها المسلحة في القضاء على تنظيم داعش الإرهابي، فتراكم الخلل الأمني واتسعت خروقه حتى نفذ منها هذا العدو الغاشم، وهو العدو الذي لا يمكن أو استحالة القضاء عليه نهائيا باستخدام القوة العسكرية فقط. لكن المشين والمهين في الموضوع أن الشعب كان قد استبشر خيرا قبل خمسة سنوات عندما أعلن السيد حيدر العبادي رئيس الوزراء آنذاك النصر على داعش في خطبة عصماء رفع فيها العبادي كل علامات النصر وقراء فيها كل آيات الحرية، في مضي عهد الإرهاب إلى درجة قد أتخمنا بسحر الأكذوبة.
بلا شك أن أولئك الذين يأملون أمل الحالمين بأن هزيمة داعش ممكن أن تكون على الأراضي العراقية يحاولون غض الطرف عن الجانب الفكري والذي هو الأخطر ويستحق المعالجة بالفكر المقابل بعد السلاح. من هذا المنطلق عليهم الخروج من حالة الانغلاق بالكشف عن الإرهاب الداعشي الذي يختبأ خلف بعض الوجوه البشرية ومواجهته بدل ادعاء إننا هزمنا داعش ونعيش بسلام ورخاء، لأن بناء ثقافة الأمن والسلم للمواطن العراقي لايمكن أن تتحقق دون فهم وتفكيك آليات الفكر المتطرف التكفيري وأصوله ونزع أقنعته المتخفية في المجتمع العراقي. في الوقت نفسه نتمنى من (بعض) مقدمي ومقدمات البرامج الحوارية السياسية في القنوات الفضائية العراقية الابتعاد عن المطاطية والمقاييس الزئبقية في تحليلهم للأزمة السياسية والأمنية، حيث يعتقد هؤلاء أنهم قد تعدوا المرحلة الكيسنجرية (هنري كيسنجر) في التنظير السياسي والأمني والعسكري، وأصبحوا خير أمة أخرجت للعراقيين، لا يأتيهم الباطل من بين إبديهم ولا من خلفهم، وإنما في برامجهم وحواراتهم الميتافيزيقية صكوك الحل، وهم أيضا يمتلكون رصيدا لا يُنفذ، وعليه فهم يصلحون لكل زمان ومكان.
إذن فالماكينة الإعلامية وتحديدا القنوات الفضائية متمثلة في (بعض) الإعلاميين والإعلاميات، أصبحت مسؤولة عن شئون التقديس، التقديس السياسي والإعلامي والديني، وتركوا التكفير والتطرف يذبح ويقتل أولادنا تحت راية الإسلام، واقتصر الموضوع على صدى يردد أصواتهم بتكفير داعش والردة عن الإسلام، دون أن يقدموا لنا استراتيجية فعالة ثقافيا وفكريا لمجابهة الفكر المتشدد، وربما هنالك من سيطلب يوما الصفح عن الدواعش وإعادتهم مرة أخرى إلى الخيمة الإسلامية.
وتأسيسا لما تقدم، فإن موضوعنا يتفاعل مع واقع يعيشه الشعب وما زال يتفاعل في طور هذا التحول الذي يستوجب نشوء دولة مؤهلة لقيادة المجتمع والسير فيه إلى برّ الأمان والاستقرار في خضمّ عالَمٍ تعصف فيه رياح التغيير، وتتلاطم فيه أمواج الصراع، وتنتشر فيه ظاهرة العنف الإرهابيّ بشكل كبير جدًّا.
السؤال: كيف تعاملت الدولة العراقية ومؤسساتها (السياسية، الإعلامية، الدينية، الأحزاب السياسيّة، منظمات المجتمع المدني وغيرها) لمعرفة الأسباب الحقيقة التي أدت إلى الحالة الراهنة التي يعيشها المجتمع العراقي بسبب ظاهرة الإرهاب الداعشي، تلك الظاهرة التي تتحمل مسؤوليتها كافةً الأطراف في الدولة؟
1. سياسيا:
كم مسؤول ورئيس حزب وكتلة سياسية قدم واجب العزاء، وكم باحث ومحلل سياسي شجب واستنكر الحادث الإجرامي الأخير للدواعش بعد أن اعطانا شرحا وافيا ودقيقا عن ملابسات الواقعة بنفس ماكينة التحليل عقب كل جريمة يقترفها الارهابيون؟ من هنا بات لزاما علينا في ظل واقعنا المنهزم الاعتراف أن ما يحدث اليوم من تجاذبات وحملات إعلامية ومعارك قضائية بين القوى السياسية قد عبد الطريق لعدونا الاستراتيجي داعش، وربما هناك اتجاه آخر يرى بوجوب اختراع داعش إذا لم تكن موجودة أصلا.
ما عرضته آنفا ليست قدحا فى في المؤسسة العسكرية والأمنية، فداخل هذه المؤسسات من قاتل واستشهد، وقدمت آلاف الضحايا جراء قتالها داعش. وبالطبع نتذكر جميعا أسماء لاتزال حية بيننا قاتلت قتال الصحابة. لكن بالنتيجة فعلا نحتاج كشعب لصبر أيوب لكي نفهم الكيفية والعقلية والاستراتيجيّة التي تتعامل فيها الدولة مع الإرهاب. إذ كيف تفسر لنا قيادتنا السياسية والعسكرية استمرار مسلسل قتل العراقيين؟
2. إعلاميا:
وإذا كنا نحتاج لصبر أيوب فيما يخض المؤسسة العسكرية وكيفية تعاملها مع داعش، فأننا نحتاج لهذا الصبر مضاعفا لكي نستوعب مدى التخبط الإعلامي عقب كل جريمة داعشية.
كم قناة فضائية عراقية قدمت العزاء، وكم رجل أعمال ورئيس حزب أو كتلة سياسية يمتلك قناة فضائية لم يتخلف أحدهم عن تقديم واجب العزاء والنحيب ومشاطرة عوائل الشهداء الأحزان. ربما اصحاب المعالي والسيادة وإعلامنا (الحر) لا يستطيعون إيقاف هذه المؤامرة، فلماذا لا يعلنون صراحة.
الحقيقة التي لا غبار عليها لم ولن يتمكن الإعلام وتحديدا القنوات الفضائية العراقية من شرح وتفكيك الإرهاب الداعشي ومآلاته وانعكاساته إلى المواطن البسيط، أعتقد أن الأمر برمته يرجع إلى (بضعة) إعلاميين وإعلاميات جهلة أو حسنى النية طبعا (ليس الكل)، خاصة في ظل غيبة المعلومات الموثقة واختلاف القصص الذي تتشر على مواقع التواصل الاجتماعي من قبل أهالي وأقارب الشهداء، حيث لا يصبح أمام بعض الإعلاميين سوى التخبط وعلى أكثر تقدير التخمين في برامجهم السياسية اليومية المتكررة في الوجوه والمواضيع، إلى درجة أن المواطن حفظ محاور اللقاء قبل أن يبدأ أكثر من حفظه للقصيدة الجميلة في مرحلة الدراسة الابتدائية(البلبل الفتان يطير في البستان). في السياق ذاته فهم لا يضيفون شيئا جديدا عن العمليات الإرهابية سوى إعادة سرد الأحداث، ثم ينتقل المايك إلى الضيوف، حيث هناك شريحة (معينة) من هؤلاء الضيوف لا يعرفون غير تكرار نفس ما تحدث به مقدم البرنامج لكن بصيغة آخري. ليصبح السؤال الذي ينتاب ملايين العراقيين وهو: لماذا هذا العدد الكبير من البرامج السياسية وماهي الفائدة من هذه البرامج للمواطن، خاصة قسم من الإعلاميين أو الإعلاميات، كل منهم يقدم المحتوى الذي يراه على مزاجه، إضافة إلى تلميع بعض الشخصيات السياسية، وإطلاق عبارات المديح للسياسيين كلا بحسب ارتباطه بالمسؤول أو بحسب أوامر وتعليمات صاحب القناة على مقدم أو مقدمة البرنامج. وياريت لو هؤلاء يمتلكون قدرا من الشجاعة ويتطرق أحدهم أو أحداهن إلى فتح ولو ملف فساد واحد يتعلق بصاحب القناة؟ عليه لم ولن تصل الثقافة والتوعية السياسية إلى عقل وقلب وبنية المواطن العراقي.
في الجانب الآخر من الرواية، فقد ساهمت هذه البرامج افي سطوع شخصيات سياسية أصبحوا نجوم سينمائية، حيث يقوم المقدم أو المقدمة باستفزاز ضيوفهم من أجل الخروج بجديد بعد أن أصبح الكثير من هؤلاء ليس لديهم الجديد لكثرة استضافتهم. وبرغم تغيير المقدمة والديكور والاسم والملابس والمكياج وتسريحة الشعر، يصبح الهدف واحداً هو أن يتخلى البعض من النجوم عن أسلوبه في الرد، ليقدم أو يقول شيئاً ما جديدا. ذلك لأن أيا من هؤلاء الإعلاميين والإعلاميات لا يدركون الفارق بين السرقة والإعداد والاقتباس والاجتزاء، وغيرها من أساليب التعامل مع الحدث في عالم السياسة. فيتغير الموضوع من عملية إرهابية بشعة إلى حديث هراء غير منطقي وغير عقلاني لم يستوعبه الرأي العام، بالتالي يثبت لك عزيزي القارئ أنه لا أمل قبل أن تتغير ذهنية الجماعة تماما.
3. دينيا:
كم تصريحا بالمواساة صدر من رجال الدين لذوي الشهداء بعد الحادث، وهل تمكنت المؤسسة الدينية في العراق بمختلف اتجاهاتها وعقائدها من معالجة ظاهرة الإرهاب، وذلك عن طريق تجديد الخطاب الديني لمجابهة الفكر التكفيري المتطرف والحركات الراديكالية؟
بالطبع لا، لم تقدم المراجع الدينية بمختلف مسمياتها برنامج ديني واضح مبنى على أساس الشريعة الإسلامية. ولابد الإشارة إلى أن فتوى الجهاد الكفائي تُعد المعالجة الأبرز لمحاربة تنظيم داعش عسكريا. أما فكريا وعقائديا هناك صمت رهيبا اتجاه هذه الكارثة. ولأن (بعض) رجال الدين الهواة يجهدون أنفسهم في العلم وأصوله، فهم لا يملكون من هذا العلم وكيفية التعامل معه شيئا ولو يسيرا، سيما أنهم لم ولن يقدموا للشباب المغرر بهم من فقه وعلم رصين يفند أفكار وادعاءات الإرهابيين والأساطير الداعشية.
ألا يعلم الفقهاء والدعاة وعلماء الدين، أن الجماعات التكفيرية تستهدف فئة شبابنا على المستوى العاطفيّ لتجنيدهم إذ تستغل جهلهم في الدين، كمــا يستغل التكفيريون المــدارس والجامعات والمســاجد والمــدارس الدينيّــة لنشر رسالتهم، ومن هنا يجب على المراجع الدينية والنظام السياسي توفير ببيئة سياسيّة وفكرية تستوعب الشباب المغيبين الذين تأثروا بأفكار داعش، باعتبار أن شريحة الشباب تمثل المستقبل في البينة السياسيّة للمجتمع العراقي. ثم يجب تجديد الخطاب الدينيّ وإخراجه من حالة الركود والجمود من خلال مصادره وطريقة تعامله مع النصّ، والتفرقة بين الخطاب الدعويّ والخطاب السياسيّ، وليس كما يفسره الدواعش. بمعنى التصدي للخطاب الدينيّ المتطرف بنصوص بديلة، وذلك عن طريق معالجة المؤسسات الدينيّة للمفاهيم الخاطئة للدين التي تروج في المجتمع وتحديداً بين فئة الشباب من قِبل داعش حيث تسعى هذه الجماعة الإرهابية إلى احتكار التراث الدينيّ لنفسها وتجييره لمصالحها السياسيّة وإضفاء القدسية على توجهاتها باسم الخطاب الدينيّ. وفي مقدمتها التفسيرات المغلوطة والمحرفة لمفهوم الجهاد والردة ووضع المرأة، فعلى سبيل المثال لا الحصر لم يستخدم القرآن كلمة الجهاد في أي موضع من المواضع لتعني شنّ حرب عدوانية هجومية، وهو ما يناقض تماماً سياق الجهاد المستخدم من قِبل تنظيم داعش الإرهابي. وعليه يجب فتح أبواب الاجتهاد والمعرفة الأصيلة بمقاصد الشريعة والاعتراف بالمنظور التاريخيّ للتشريع وتطويره للتلاؤم مع مقتضيات العصر، وكذلك تجديد الخطاب الدينيّ وتحديثه فيما يتعلق بقيم الحرية والعدالة والمساوة، وتأكيد الدور البارز للمرأة في النصوص والتاريخ الدينيّ مقارنة بما يتم تدريسُه وتعليمُه من قِبل الجماعات المتطرفة باسم الإسلام.
إن مسؤولية النظام الحاكم والمراجع الدينية هي إيجاد مشروع يتميز بمشاركة واسعة من الأطراف الفاعلة كافةً في المجتمع ابتداء بالدولة إلى مؤسسات المجتمع المدنيّ، إلى الأفراد بهدف الإصلاح والحوار والانتماء، والمشاركة، والتسامح، والحرية، والتأهيل المجتمعيّ، وتطوير التعليم والمناهج، بالإضافة إلى تحقيق العدالة لجميع المواطنين، للحصول على التعليم والعمل والرعاية الصحية والاجتماعيّة، والتنافس على الوظائف والمناصب، والمكتسبات والموارد بين أفراد المجتمع بعيداً عن التمييز على أساس الانتماء الطائفيّ والمذهبيّ والعرقيّ.
وفى مقابل هذا الصمت القاتل عن مواجهة الإرهاب فكريا يصبح لدينا كل يوم إرهابي جاهز، وفى مقابل انعدام التوعية الدينية الصحيحة في المدارس والمعاهد والجامعات، تصبح لدينا بؤرة تطرف أو منطقة إرهابية تفرز مزيدا من التكفيريين.
0 تعليقات
إرسال تعليق