فائزة محمد علي فدعم

 ذهبت في الصباح الباكر الى الباب لافتحها واشاهد شط خريسان حيث ارتفع منسوب المياة فيه . كان نهرا جميلا ومخيفا في نفس الوقت على الاطفال وفي صغري كنت معروفة باني مفرطة في الحركة مما يسبب الازعاج للاهل ولهذا كانت دائما خلفي خالتي وكما هو الحال لابي وامي وخالي الذين كانوا يتناوبون على مراقبتي طيلة النهار خوفا من الغرق في النهر الذي كان مقابل بيتنا بالضبط ولم يكن هناك سور او سياج يحيط به . وقفت اشاهد جمال مياهه وقد امتلأ بها على نحو غير معهود . وفي مثل هذه الايام وعندما كنت اجلس لاتناول فطوري في الباب كما اعتدت دائما شاهدت من بعيد عربة تدفعها فتاة صغيرة تعودت على رؤيتها كل يوم . كنت اراقبها وانا فرحة ومسرورة باشعة الشمس المنعكسة على مياه النهر وهنا اخبرتني خالتي انها ستدخل البيت قليلا ثم تعود طالبة مني ألا اتحرك من مكاني .
 
بدأت العربة تندفع بسرعة وفيها الطفل الصغير وصارت تتسارع والفتاة تركض خلفها ولما وصلت قرب القنطرة مالت بشكل غريب نحو الشط وسقطت والطفل فيها والفتاة تركض كالخرساء لاتطلق اي صوت فبدأت انا اصرخ وناديت اهلي فتبعوني وتجمع الناس ليعرفوا ما يجري والكل ينظر في الماء ولا يشاهدون الطفل ولا العربة فقد اختفيا فحدث هرج ومرج في المدينة وحزن والم تضامنا مع العائلة . والد الطفل كان السيد حمزة مُركب الاسنان .
 
بقيت انظر وانا حزينة واتالم على الفتاة لما سيكون عليه مصيرها فاخذتني الوالدة وادخلتني البيت وانا اعيش الرعب وبقيت عدة ايام ارفض الخروج قليلة الحركة وهذا الامر جلب انتباه والدتي ولهذا اقترحت على ابي اخراجي من هذا الحال لكي اتفاعل مع الناس وصديقاتي كالسابق وقبل خروجي معه سكبت الماء المالح على عتبة الدار ومسحت يدها في الارض ثم على جبهتي ووجهي وهذه (احدى عقائد ازالة الخوف والمس ) وعند خروجنا امسكت بقوة بيد الوالد لاستمد منه الشجاعة وذهبنا سيرا الى منطقة السوق للتنزه وفي الطريق سألني اين تودين الذهاب فاجبته اريد شراء الثعلبية (سعلبية ) وكانت المنطقة فسحة كبيرة (مصرف الرافدين حاليا) يتواجد فيها عددا كبيرا من الباعة المتجولين وقد اعجبتني عربة نظيفة فيها قدر يلمع تتصاعد منه الابخرة وقد كانت تعود الى كمال ابو محمد وفي الجهة الاخرى عربات اخرى لبائعي الباقلاء واللبلبي وانواع الحلويات وبعد تناولي الثعلبية طلب مني والدي الموافقة على احد خيارين . اما ان اذهب الى اللعب مع صديقاتي او الى بيت الخالة ( فلم ميخا خياط ) وكانت مسيحية الديانة جميلة جدا محبوبة من قبل الجميع فابتسمت ونظرت الى جهة بيتها . كانت تعمل ممرضة في مستوصف بعقوبة الذي يقع على جانب نهر خريسان مقابل مدرسة بعقوبة وبيت المتولي وقد زارتني في السبعينات لبيع دارها الذي كان ضمن البيوت الممتدة على طول شارع مصرف الرافدين وهي قديمة جدا اصبحت الان سلسلة مطاعم ومحلات اشهرها مطعم الحاج غلوبي الكببجي وبناية المستوصف الان حديقة واسعة لم يبقى منها سوى شجرة كالبتوس واحدة شامخة عمرها يقارب الثمانين عاما . كان لدى الخالة فلم ابنة واحدة اسمها امل لاتقل عنها جمالا . وتزوجت من تاجر كويتي ولهذا قررت امها بيع بيتها لتعيش في مدينة البصرة بالقرب منها وقد سعدت بلقياها وهنا اعاد الكّرة والدي ليسألني الى اين تودين الذهاب فاخبرته بقراري الاخير وهو الى صديقاتي معصومة وسهيلة بنات السيد حساني ابو قاسم الذي كان دارة مقابل صيرفة السيد عدنان المندلاوي .
 
لعبنا معا ( حدرة بدرة ) وجلسنا قرب بسطية ابو قاسم (كانت تسمى الخردة فروش ) وكان الرابح منا يرفع راسه ليقبل السماء والخاسر يبصق على الارض وبينما كنت العب معهنَّ ونحن فرحين ووالدي يجلس على كرسي من جريد النخل شاهدنا رجلين يتجهان نحوه وهما مسرعان وجوههم مكفهرة وقد عرفتهما في الحال وهما السيدان نوري وخليل كفشي فقد كانوا من مستأجري بساتيننا وبعد كلام مختصر تجهم وجه ابي وقال ( هلمي نذهب الى البيت ) ذهبنا مسرعين نمشي بجانب الشط وانا انظر الى النهر وذكرى الطفل الغريق تؤرقني . حتى دخلنا البيت فوجدنا الوالدة جالسة قرب المطبخ على وسادة تحتها حصير الخيزران . انتبهت الى والدي واحست انه مرتبك وقالت له : ( تشرب نومي بصرة ) قال لها : وبحزم : كلا (اريد ورد ماوي ) ثم همس في اذنها ان الفيضان قادم وقد وصل الى بستان بيرم العائدة لنا وقد كانت مزهرة جدا تحولت في ايامنا هذه الى معارض سيارات وكانت تقع مقابل فرجة العيد نهاية منطقة المنجرة .
 
الفيضان يعتبر كارثة لاصحاب البساتين والدور المجاورة لها فقد كان ارتفاع الماء ودخوله اليها يسبب مشاكل كثيرة لساكنيها وصادف هذا اليوم موعدا لوالدي مع اناس طيبوا الاخلاق من قرية الهويدر لختان ابنهم الصغير راجين اخذ موعد مع (جميّل الزعرتي ) لانه كان من اصدقاءه وفي اليوم التالي اقتادني الى القيصرية لاخذ الموعد فطرقنا الباب . فخرجت زوجته التي كانت تلقب (دبابة) وبعد اخذ الموعد اتجهنا الى القيصرية وشاهدنا السيد المعلم ابو شامل يقف عند باب بيته فسبقنا بالسلام الحار وقد كان رجلا محترما . كذلك زوجته الست فتحية التي كانت مديرة في احدى مدارس بعقوبة ايضا . المشهور عنها انها طيبة القلب وكانت على يميننا دار السيد عبد الامير ابو طاير الكببجي واالسيد عبد المسيح ثروت وهو مترجم معروف بالاوساط الادبية ودارهم مقابل بيت المتولي .
 
استمرينا بالسير متجاوزين مقهى السيد محمد عبيّه وهناك وعلى حين غرة شاهدت معلمتي الست صبيحة بنت السيد هادي السعيد وهي متجهة الى زيارة بيت والدها وبدون شعور قفزت واختبأت خلف الشجرة خوفا من ان تراني فتعجب والدي من هذه الحركة وابتسم ضاحكا فهذا يدل على احترام ابنته فائزة لمعلمتها . كان المعلم في ذلك الزمان وقورا انيقا بمجرد رؤيته نختبىء احتراما لشخصه . اجتزنا البريد القديم وعبرنا السراي ودربونة التوراة ووصلنا الى عوائل بيت السعدي المتواجدين قرب مساكنهم التي غمرتها المياه وسرنا الى بستاننا المسماة ( بيرم ) وقد كانت غارقة فقد وصل الفيضان الى راس الشارع واغرق جميع الدور القريبة منه . كان هذا الحدث كارثة في ذلك الوقت ومن عادات اهالي بعقوبة ان يتجمهر الباعة بالقرب من النساء والرجال والاطفال الذين يواكبون احداث الفيضان وفي مقدمتهم ياسين ابو الشامية وباعة ( الجقجق قدر ) والعنبر ورد وابو العلوجة حيت يضعها في صينية زجاجية موضوعة على راسه وتحتها (جعچة) للتوازن لتثبت بشكل آمن وعند البيع كان يضعها على مسند خشبي على الارض ويضع الصينية الزجاجية فوقه وبعد الحاح شديد طلبنا من الوالد ان يسمح لنا بالذهاب مع والدتي والجيران للتفرج . رغم الخسارة الكبيرة لكن كانت الابتسامة على وجوه الجميع واكثر النسوة والاطفال بيد كل واحد منهم عصا متينة يغرسها على طرف الماء ليقيسوا مدى ارتفاعه او انخفاضه وكان اهل البساتين يقومون بجني الحاصل باستعمال الباكورة لقطف الثمار المرتفعة ويضعوها بعد ذلك في الزورق او (الگفة) وكان لتجار الحمضيات فرصة ذهبية حيث يشترون المحصول بثمن بخس وكذلك للناس الذين يشترون الاسماك من الصيادين باسعار زهيدة ومنها الذي يصطاده اصحاب الشباك التي كانت بعضها كبيرة بطول الذراع او اكثر وتباع بدراهم معدودة . كان يرعبني ويخيفني قطع البائع راس السمكة وذيلها ويرميها جانبا وعيونها وفمها مازالت تنبض فيها الحياة وكان هذا الامر يدعوني الى الهرب مع بقية الاطفال .
 
من الاشياء الغريبة التي شاهدناها وقد جلبتها مياه الفيضان والتي يحملها نهر ديالى . كاروك ( سرير طفل ) عليه ديك وحيوانات اليفة بعضها كان نافقا مثل الماعز والبقر . كنا نشاهدها عند الجسر والشباب حين يتجمع الناس والفتيات تأخذهم الحميّة ليتبارون في عبور النهر المتلاطم الامواج ونحن مشدودين اليهم واكثرهم جرأة وشجاعة كان (ابو الديچ) ينافسه (عباس كهية) وكنا نشاهد الملابس وادوات الطبخ وقطع من الاخشاب وجذوع الاشجار تقف عليها حيوانات اليفة كالدجاج والبط وكان يوما لاينسى عندما اخرج احدهم حمارا يتنفس الهواء بصعوبة ويمشي ببطىء اخرجه شخص مشهور ( بعباس الخبل ) الى اليابسة ورغم التعب الذي مر به الحمار الا انه استغله بتأجيره للاطفال والركوب على ظهره بعد دفع مبلغا زهيدا لم يكن يتوفر لدى الجميع . كنت اراقبهم بلهفة وانظر الى والدتي متوسلة لامتطيه كما فعل الاخرون ولكنها رفضت لكونه متعبا وهنا انبرى عباس الخبل بصوت مرتفع وتعهد لوالدتي بان يوصلني الى البيت سالمة وكان الاطفال بين مصفق وضاحك ومشجع لكنه تكفل بالمهمة ووضعني على ظهر الحمار واستمر المشوار من باب البستان الى بيتنا وكأنه مهرجان . كان الاطفال يزعجون الحمار بالصراخ تارة ورمي العصي الصغيرة عليه تارة اخرى حتى وصلنا وفي نهاية الامر قام احد المشاكسين بسحبه من ذيله فما كان من الحمار الا ان قفز ورماني ارضا ولكني وقعت على صديقاتي ولولا سرعة والدتي في احتضاني وامساكها بي لكنت الان في (خبر كان) ...