الناقد عبدالباري المالكي
الحسينيُّ ... هو ممَّن يصعب القول فيهم أنه كان رساماً أم شاعراً ؟ فاستعاراته من أغاني المهد وهدهدة الطفولة ، قد تجاوزت بنظرتها مدى الرؤية وأضفت عليها ملامح أوضح فاختزلت المشهد وركّزت الضوء من خلال زجاج موشوريّ ، فرسم خطوط القصيدة ووضع استعاراتِه تلك وتشبيهاتِه بإحساسِه المطاوع المعجب .
ولاريب ... أن الحسينيّ فارس في ميادينه ومداراته التي يلحقها بطريق الخيال ، مايجعله يتخذ مجلساً عالياً على ظهر جوادٍ ، يلائم به بين عالَمينِ مختلفينِ ، ويصوغهما بصياغة تشكيلية أكثر ، حتى ليرى القارئ أنْ لا أثر فيها للإضطراب ولا للإختلال .
وكوْنُ الحسينيّ ماهو إلا صندوق ألعاب طفولتهِ ، صندوق مليء بالصور القديسية الحسية في مذبح بلقيسهِ ، تلك الصور التي تبتّلت ْ عند تماثيله الطينية الصغيرة ، لتستفيق ذات ساعةٍ بجناحيها الموشومينِ توقاً على رمشها الغافي ، وترتميَ عند عتبةِ مدينةِ عينيها العريقة .
ومن آخر الكون سعياً جاء شاعرنا وهو لمّا يفقد رباطةَ جأشِه وتماسكَه حتى في لحظة اتقاده عند نار عشّها الذي كان يدرك معنى الوصول إليه ، وقد بدا هزيلَ الجناحينِ ، شاحباً فوق شحوبِه ، وفي عينيه ومضُ شوقٍ مكظومٍ ، وفي صوتهِ خشونةٌ واختلاج ، وفي عباراتهِ انتقاءٌ واقتضاب ، وفي همسهِ أغنية عراقيةزاكية يتمتمها في اضطرابٍ وتلعثمٍ لِمَا في وجههِ دمٌ مندفع ، ولِمَا على خديهِ من حمرةِ خجَلٍ ، وهو يحاول أن يكشفَ تلك الحشمة بلغةِ عشقٍ يمطرها ، وبرعمٍ يزرعه بين يديها وهو يفتش عن هويته الضائعة بالتضرع الى عينيّ بلقيسِه .
وهو إذ يرى في ثريّا وجهِها سلسلةً من الأنباء ذوات الدلالات المتفائلة بليلِ تلك العيونِ الحبيسة بذكرياته التي لايفشيها زمن ما ، ولا يفسد براءتهما دهر ، فهو يعلم يقيناً أنها قدّاس يستجديه حباً قد نما وكبر بين أضلاعه العليلة ، حتى لتكادَ روحه تكون ضائعة في كل منعطفاته وزواياه ، وهو يجدّ في البحث عنها مستنكراً كل تلك العوائق والحصون التي تتميز بها مملكتها والتي تمنع وصوله الى العرش الجليل ، لتستمر سبأُ حلماً لطفولة لا تُنتهَك حرمتها ، وبراءةً يُتغَنى بها بجمال بلقيسهِ التي تمنح الحياة لشاعرنا وتعطيه معناها ، وتحوّله الى أسطورةِ عاشق .
وشهريارُ الحسينيّ إذ يتكئ على ليلهِ فلأنّه طاقة مولدة للحياة عنده ، ومجرى يؤدي به الى نيل هويته التي نقشها في حبٍ أثارَه ، وخصبٍ أورقهُ بياضاتٍ وأزاهيرَ متنوعةً استغنى بها عن سواها ، وتلك وسيلة التسامي التي لم يكن من الممكن البوح بها حتى فضّلَ أن يظلّ صامتاً رغم رهافة إحساسِه ، وجمالِ نسماتٍ حفيفة تغشّت روحَه في عيونٍ لاحت عند مملكتهِ وقبعَت في هويتِه الشخصية ، وهو ماانفكّ يبحث عنها منذ طفولتِه، ويتفحص فيضَها المنساب ، ويصغي الى أنغام عودِها المألوفةِ على الشطآن الخضرِ ، وهي تردّد صدى حزنٍ لا ينفكّ ولاينتهي .
ولأن هدهدَ الحسينيّ رسولٌ لايتوانى عن أداء رسالته التي خصّه بها بإخلاصٍ واحترافية ، فإنه ينقل حواسَ الحسينيّ بطريقةٍ أقربَ الى العفوية في إشراقةِ صور تُلبِس قلبَ شاعرنا لبوسَ الاشتياقِ والانقياد .
فالنمط والمثال الروحيّ لشاعرنا لايتعرض للوصف المادي في قصيدته بل يعرج الى حالة روحية ما جعلها فردوساً يخفق ولا يهدأ ، ويلتقط ولايلفظ ، وبه يحلّق شاعرنا عالياً حتى تمكّن من قرعِ أجراس مملكةِ سبأَ الحصينة ، فكشف ثمارَها اليانعة ، وقمحَها الحسَن ، وعرشَها الذي اختزل الطبيعةَ بأسرارهِ حتى فاق مستوى الفكرِ والخيال .
قصيدة ( بينَ عينيكِ طفلٌ )
.....................................
لي بينَ عينيكِ طفلٌ مَنْ يهدهدهُ
كي يستفيقَ على إغفاءةِ الرمشِ
.........
من آخرِ الكونِ سعياً جاءَ متّقداً
كالبلبلِ الغضِّ توّاقاً الى العُشِ
........
على جناحَيْهِ وشمُ الشوقِ مُحتفِلٌ
لمّا رآى منكِ نوراً بانَ في النقشِ
.......
يا خيزرانَ المعاني المنتقاةِ على
وجهِ الثريّا تناهى عطركِ المُنشي
........
همساً دعيهِ يغنّي فيكِ ملهمةً
أنثى عراقيةً كالريمِ إذْ تمشي
......
يا شهرزادَ نهاري أمطرتْ لغتي
عشقاً وبرعمَ حولي يانعُ العيشِ
.........
وشهريارٌ تسامى فيكِ مورقةً
منَ البياضاتِ فاستغنى عنِ البطشِ
.........
وجاءَ من سبأ الاقداسِ محتشداً
بما لديهِ من الأنباءِ (للجيشِ )
.........
وحاورَ الهدهدُ المفتونُ صاحبَهُ
وقالَ : بلقيسُ تستلقي على العرشِ
..........
فعانقيهِ فهذا الليلُ متّكأٌ
للذكرياتِ وبالعشّاقِ لا يفشي
........................................
الحسينيُّ ... هو ممَّن يصعب القول فيهم أنه كان رساماً أم شاعراً ؟ فاستعاراته من أغاني المهد وهدهدة الطفولة ، قد تجاوزت بنظرتها مدى الرؤية وأضفت عليها ملامح أوضح فاختزلت المشهد وركّزت الضوء من خلال زجاج موشوريّ ، فرسم خطوط القصيدة ووضع استعاراتِه تلك وتشبيهاتِه بإحساسِه المطاوع المعجب .
ولاريب ... أن الحسينيّ فارس في ميادينه ومداراته التي يلحقها بطريق الخيال ، مايجعله يتخذ مجلساً عالياً على ظهر جوادٍ ، يلائم به بين عالَمينِ مختلفينِ ، ويصوغهما بصياغة تشكيلية أكثر ، حتى ليرى القارئ أنْ لا أثر فيها للإضطراب ولا للإختلال .
وكوْنُ الحسينيّ ماهو إلا صندوق ألعاب طفولتهِ ، صندوق مليء بالصور القديسية الحسية في مذبح بلقيسهِ ، تلك الصور التي تبتّلت ْ عند تماثيله الطينية الصغيرة ، لتستفيق ذات ساعةٍ بجناحيها الموشومينِ توقاً على رمشها الغافي ، وترتميَ عند عتبةِ مدينةِ عينيها العريقة .
ومن آخر الكون سعياً جاء شاعرنا وهو لمّا يفقد رباطةَ جأشِه وتماسكَه حتى في لحظة اتقاده عند نار عشّها الذي كان يدرك معنى الوصول إليه ، وقد بدا هزيلَ الجناحينِ ، شاحباً فوق شحوبِه ، وفي عينيه ومضُ شوقٍ مكظومٍ ، وفي صوتهِ خشونةٌ واختلاج ، وفي عباراتهِ انتقاءٌ واقتضاب ، وفي همسهِ أغنية عراقيةزاكية يتمتمها في اضطرابٍ وتلعثمٍ لِمَا في وجههِ دمٌ مندفع ، ولِمَا على خديهِ من حمرةِ خجَلٍ ، وهو يحاول أن يكشفَ تلك الحشمة بلغةِ عشقٍ يمطرها ، وبرعمٍ يزرعه بين يديها وهو يفتش عن هويته الضائعة بالتضرع الى عينيّ بلقيسِه .
وهو إذ يرى في ثريّا وجهِها سلسلةً من الأنباء ذوات الدلالات المتفائلة بليلِ تلك العيونِ الحبيسة بذكرياته التي لايفشيها زمن ما ، ولا يفسد براءتهما دهر ، فهو يعلم يقيناً أنها قدّاس يستجديه حباً قد نما وكبر بين أضلاعه العليلة ، حتى لتكادَ روحه تكون ضائعة في كل منعطفاته وزواياه ، وهو يجدّ في البحث عنها مستنكراً كل تلك العوائق والحصون التي تتميز بها مملكتها والتي تمنع وصوله الى العرش الجليل ، لتستمر سبأُ حلماً لطفولة لا تُنتهَك حرمتها ، وبراءةً يُتغَنى بها بجمال بلقيسهِ التي تمنح الحياة لشاعرنا وتعطيه معناها ، وتحوّله الى أسطورةِ عاشق .
وشهريارُ الحسينيّ إذ يتكئ على ليلهِ فلأنّه طاقة مولدة للحياة عنده ، ومجرى يؤدي به الى نيل هويته التي نقشها في حبٍ أثارَه ، وخصبٍ أورقهُ بياضاتٍ وأزاهيرَ متنوعةً استغنى بها عن سواها ، وتلك وسيلة التسامي التي لم يكن من الممكن البوح بها حتى فضّلَ أن يظلّ صامتاً رغم رهافة إحساسِه ، وجمالِ نسماتٍ حفيفة تغشّت روحَه في عيونٍ لاحت عند مملكتهِ وقبعَت في هويتِه الشخصية ، وهو ماانفكّ يبحث عنها منذ طفولتِه، ويتفحص فيضَها المنساب ، ويصغي الى أنغام عودِها المألوفةِ على الشطآن الخضرِ ، وهي تردّد صدى حزنٍ لا ينفكّ ولاينتهي .
ولأن هدهدَ الحسينيّ رسولٌ لايتوانى عن أداء رسالته التي خصّه بها بإخلاصٍ واحترافية ، فإنه ينقل حواسَ الحسينيّ بطريقةٍ أقربَ الى العفوية في إشراقةِ صور تُلبِس قلبَ شاعرنا لبوسَ الاشتياقِ والانقياد .
فالنمط والمثال الروحيّ لشاعرنا لايتعرض للوصف المادي في قصيدته بل يعرج الى حالة روحية ما جعلها فردوساً يخفق ولا يهدأ ، ويلتقط ولايلفظ ، وبه يحلّق شاعرنا عالياً حتى تمكّن من قرعِ أجراس مملكةِ سبأَ الحصينة ، فكشف ثمارَها اليانعة ، وقمحَها الحسَن ، وعرشَها الذي اختزل الطبيعةَ بأسرارهِ حتى فاق مستوى الفكرِ والخيال .
قصيدة ( بينَ عينيكِ طفلٌ )
.....................................
لي بينَ عينيكِ طفلٌ مَنْ يهدهدهُ
كي يستفيقَ على إغفاءةِ الرمشِ
.........
من آخرِ الكونِ سعياً جاءَ متّقداً
كالبلبلِ الغضِّ توّاقاً الى العُشِ
........
على جناحَيْهِ وشمُ الشوقِ مُحتفِلٌ
لمّا رآى منكِ نوراً بانَ في النقشِ
.......
يا خيزرانَ المعاني المنتقاةِ على
وجهِ الثريّا تناهى عطركِ المُنشي
........
همساً دعيهِ يغنّي فيكِ ملهمةً
أنثى عراقيةً كالريمِ إذْ تمشي
......
يا شهرزادَ نهاري أمطرتْ لغتي
عشقاً وبرعمَ حولي يانعُ العيشِ
.........
وشهريارٌ تسامى فيكِ مورقةً
منَ البياضاتِ فاستغنى عنِ البطشِ
.........
وجاءَ من سبأ الاقداسِ محتشداً
بما لديهِ من الأنباءِ (للجيشِ )
.........
وحاورَ الهدهدُ المفتونُ صاحبَهُ
وقالَ : بلقيسُ تستلقي على العرشِ
..........
فعانقيهِ فهذا الليلُ متّكأٌ
للذكرياتِ وبالعشّاقِ لا يفشي
........................................
0 تعليقات
إرسال تعليق