واثق السعدون

أكاديمي وباحث من العراق


من الملاحظ أن هنالك انقسام في الشارع العربي حول الموقف من هذه الحرب، كذلك هنالك تذبذب في المواقف وعدم ثبات في الآراء، التي تأخذ بالتغيير عند ظهور أي معطى جديد في مسارات هذا الصراع. هذا طبيعي لاختلاف المنطلقات الفكرية ومستوياتها من جهة، ولأن الحقيقة هي أول ضحايا الحروب من جهة أخرى، فضلاً عن المستوى المخيف الذي وصل له الإعلام في تزييف المعلومات وفبركتها. 

من جانب آخر أصبح واضحاً أن هذه الحرب باتت صراعاً عالمياً بامتياز، بين روسيا والغرب، وبوصف أن روسيا اليوم هي ليست الاتحاد السوفييتي السابق الذي يمكن اعتبار مواقفه كانت أفضل من الغرب تجاه قضايا العرب والمسلمين، فأن كلا طرفي هذا الصراع لا يمتلكان سجلاً تاريخياً منزهاً تجاه قضايانا، يجعلنا نتخذ موقفاً متسرعاً مسانداً له في هذه الحرب عرفاناً لمواقفه السابقة.

في ظل حالة اللايقين هذه، كيف لنا أن نبني موقفاً من هذه الحرب تطمأن له ضمائرنا وعقولنا؟ لتبديد هذه الحيرة، من الأفضل تجنب اتخاذ موقف متصلب يتمترس في خندق ما ويرفض مغادرته، فهذه حرب تكاد تكون عالمية، وفي الحروب لا يوجد طرفاً يمثل الشر المطلق من بدايتها إلى نهايتها، كذلك لا يوجد فيها من يمثل الخير المطلق حتى نهاية تلك الحرب، إملاءات الحروب القاسية تجبر كل أطرافها على ارتكاب أفعالاً شريرة وأخرى خيّرة في أوقات مختلفة.

 باعتقادنا من الأفضل أن يكون تقييمنا لمجريات هذه الحرب متعدد الأبعاد، يأخذ البعد الانساني فيه الأولوية، وأن ننظر بمسؤولية إنسانية لما يواجهه الشعب الأوكراني من ظروف قاسية اضطرت جزء كبير منهم للهجرة والنزوح، وأن نستحضر في خضم هذا البعد من تقييمنا بأن هؤلاء المدنيين العزل الذين اضطربت حياتهم جراء الاجتياح الروسي هم ليسوا جزء من قرار الحرب أو السلام في بلدهم، مع أن بلدهم ديمقراطي، ولكنهم لم يكونوا جزءاً من عملية التخطيط وصناعة القرار السياسي والأمني لحكومتهم، كذلك هم ليسوا جزءاً من الخطوات الاستفزازية التي تدعى روسيا بأن حكومة أوكرانيا قامت بها ضد روسيا بالتواطيء مع الغرب. 

وحتى نكون منصفين وصادقين مع أنفسنا، يجب أن نرفض أيضاً أن تطال العقوبات التي يصدرها الغرب ضد روسيا أمن وحياة الشعب الروسي، الذين هم من المؤكد ليسوا جزءاً من عملية صنع القرار في بلدهم. فنحن أبناء منطقة تعرف جيداً وطئة عقوبات الغرب على حياة الناس العاديين.

البعد الثاني في تقييمنا لمجريات الحرب الروسية- الأوكرانية، يجب أن يكون اخضاع مخرجات هذا الصراع ونتائجه لمعيار مصالح شعوب المنطقة، وليس لمصلحة أي طرف في ذلك الصراع. حيث أن انتصار الغرب على الاتحاد السوفييتي في نهاية الحرب الباردة لم يجلب الخير لمنطقتنا ولم تستفد منه شعوب المنطقة بأي شيء، بل على العكس ازدادت أزمات المنطقة وتعقدت حلولها، أول ما قام به الغرب بعد نهاية الحرب الباردة هي استباحة بلداننا واهمال قضايانا في ظل نشوة انتصاره على الاتحاد السوفييتي، بدليل انحيازه المتطرف لإسرائيل، وغزو واحتلال العراق والمآسي الانسانية وحجم الدمار الذي خلفه، مروراً بحملة الناتو العسكرية على ليبيا وتدمير هذا البلد. 

وفي نفس السياق، صعود روسيا-بوتين في السنوات الأخيرة ونفضها لغبار انهيار الاتحاد السوفييتي، واستعادتها لقوتها العسكرية والاقتصادية والسياسية في المسرح العالمي، هو الآخر لم يجلب خيراً للمنطقة، مشاهد أشلاء الأطفال السوريين تحت ركام قصف طائرات بوتين لا يمكنها أن تفارق ذاكرتنا، ارتكبت روسيا-بوتين مجازر مروعة في سوريا لانقاذ نظام بشار من السقوط. 

من هنا يجب أن نسأل أنفسنا ماذا سينفعنا انتصار طرف ما في هذه الحرب؟ أو ماذا سيجنبنا هزيمة الآخر؟ وإذا ما كانت هذه الحرب هي بداية لمواجهة عالمية طويلة الأمد بين روسيا والغرب، ما هو الموقف المتزن الذي يجب أن نتخذه تجاه هذا الصراع ويكون متوافقاً مع مصالح شعوب المنطقة، وليست المصالح الفئوية الضيقة، أو النصرةً لمعتقدات آيديولوجية عفا عليها الزمن. على بلدان المنطقة أن تجيد التعامل مع القوى العالمية ضمن قاعدة رابح-رابح، وأن لا تعيد تكرار سذاجة مواقفها القديمة إبان الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي خلال الحرب الباردة، وأن مفاهيم مثل "عدو عدوي هو صديقي" و"حليف حليفي هو حليفي" ربما لا تكون نافعة في كل الأوقات. 

البعد الثالث الذي يجب أن يتضمنه موقفنا من الحرب الروسية-الأوكرانية، هو تقييم التطورات العسكرية في هذه الحرب، والتي يجب أن نتوخى فيها الموضوعية والمنطقية والتجرد، وأن نقول الحقيقة فيها كما هي وليست كما نتمنى، وأن لا نكون جزء من ماكينة حرب إعلامية لطرف ما في هذه الحرب، وأن نتجنب الاندفاع والحماس بالتهويل أو بالتهوين. وأن نتحدث عن تقدم طرفاً ما في هذه الحرب بصدق، حتى ولو كنا غير مؤيدين له، وأن نعترف بهزيمة طرف ما، حتى ولو كنا نتمنى انتصاره.