سارة طالب السهيل
 
التاريخ الانساني لا يسجل في صفحاته سوى العباقرة والافذاذ والفوارس والنبلاء، ولا يخلد الا العظماء الذين حفروا بصماتهم في التاريخ، ومنهم سرجون الأكدي الملك الاسد حسبما دلت ترجمة اسمه بالأكادية. استنادا الى توحيده المدن السومرية القديمة تحت ظل امبراطورية واحدة، و لُقب بعدة القاب منها ( ملك الجهات الاربع ) و ( الملك الاسد) .
 وعلى مدار نصف قرن أسس فيها لإمبراطوريه خالدة، علم البشرية  عبر حكمه القوي كيفية انشاء امبراطورية خالدة بقيم العلمانية والحداثة ،  كما يعتبر من أوائل مؤسسي دولة متعددة الأعراق.
فقصته تعلمنا معنى العصامية والكفاح من أجل تحقيق الذات والوصول الى الحكم والنبوغ فيه، فلم يكن ابنا لملك او أمير، بل كان حسبما رُوي في الألواح والآثار الطينية، ابناً مجهول الأب، فهو ابن لكاهنة أخفت سر حملها به، لتذهب وتنجبه بعيداً عن الأعين عند أحد ضفاف نهر الفرات، تاركةً إيّاه هناك.
 وقد تشبه قصة ميلاده على نهر الفرات كليم الله موسى عليه السلام، وقد يشبهه ايضا في قوته ورباط  جأشه. فقد ولد سرجون من كاهنة لم تكن القوانين وقتها  تسمح لها بالإنجاب بطريقة شرعية، لذلك وضعته في تابوت وألقته في البحر . حيث التقطه الساقي للملك كيش لايبوم. واتخذه ولدًا له، واعتنى به بتربيته وعندما كبر عمل هو الآخر ساقيًا للملك.
قامت امبراطورية سرجون على البيروقراطية السياسية ونمط الإدارة الواسعة النطاق في سائر مفاصل الدولة، وتعيين معايير لاختيار الحكام والملوك مستقبلا، ولا غرابة اذن ان تظل سيرته نابضة بالحياة، ويُتغنى بها لأكثر من 1500 عاماً بعد وفاته، بوصفه أعظم رجلٍ في تاريخ الإمبراطورية الأكادية وما بعدها.
فقد اشتغل سرجون ساقيا للملك، فقربه الملك إليه، و ازداد نفوذه و سلطانه. ثم خرج سرجون على سيده و خلعه و جلس على عرشه وهو في عمر 34 عامًا. واستولى على الحكم في عام 2334 قبل الميلاد، و سمى نفسه " الملك صاحب السلطان العالي ".
الذكاء الحاد الذي تمتع به الملك سرجون مكنه من تحقيق انجازات في حكمه لم يسبقه أحد اليها، وهي تكريس للحداثة وعلمانية الدولة والتي تجلت في عدة مظاهر عملية منها :
سعي سرجون لاكتساب ولاء الناس . من خلال نص اليمين اي القسم، حيث يظهر اسم الملك الى جانب الالهة. فاذا جرى حنث لاتفاقية بين طرفين , كان للملك شان في ذلك اذ اصبح لزاما عليه ان يؤيد حق الطرف المتضرر . فالنص الجديد جعل الملك في وضع اصبح فيه الشفيع لجميع الذين اقسموا باسمه. وصار مرجع استئناف لجميع البلاد بغض النظر عن المدن .
وكذلك رفع ايدي الكهنة عن الملكية العامة للهياكل من حقوق ومشاغل ومصارف بعد ان كانوا قد وضعوا الايدي عليها و صاروا يتوارثون ملكيتها.
و حرر الفلاحين من التزاماتهم وكذلك العمال والصناع العاملين في مشاغل الهياكل الصناعية. وأنشأ ادارات خاصة للأراضي والمشاغل الدينية تشرف عليها الدولة مباشرة . كما انشا دائرة تعطي للكهنة مرتبات تدفعها لهم الدولة، و بذلك سرجون اول من طبق شعار علمانية الدولة في التاريخ .
كما حرر الفلاحين من استعباد الامراء الاقطاعيين في المدن، فالغى النظام الاقطاعي الاميري لملكية الارض و وزعها على الفلاحين في ملكيات صغيرة خاصة . وأنشأ لذلك دائرة خاصة للتسجيل العقاري . و لم يبقى على الفلاح اي التزامات الا للمراجع الملكية المركزية مباشرة. فيكون بذلك قد طبق اول برنامج للإصلاح الزراعي في التاريخ و ذلك قبل 4500 عام .
كذلك ألغى سرجون الوكلاء الاقطاعيين الذين كانوا يتولون انشاء الجيوش في المدن و يقدمونها للملك حسب اهوائهم، و اعتمد في نظام جيشه على الاوساط الشعبية مباشرة, و لأول مرة في التاريخ. وعمل على توحيد البلاد بتوحيد التقويم المختلفة للمدن في تقويم مركزي واحد .
لاشك، فان في  الغاء سرجون للمحاكم الدينية الهيكلية المستبدة, وتعميم المحاكم الملكية المدنية التي تعتمد على قضاة اكفاء متخصصين و على ( مجالس احرار الشعب الديمقراطية ) و ليس على ( مجالس الشيوخ ) للكبار منعت تعسف الحكام الدينيين و عبثهم بمصائر الفقراء ، مما جعل الشعب يتمسك بهذه المحاكم حتى بعد سقوط اكد واجتياحها على ايدي "الغوتيين " فيما بعد .
 سرجون العظيم الذي ادهش المؤرخين بمنجزاته الفريدة  في نظام الحكم وانه علم الحكام اللاحقين عليه في العالم ، ضرورة الاحتفاظ بدولة موحدة مركزية. يقول المؤرخ موسكاتي : ( وسع سرجون إمبراطوريته فشملت بابل واشور و سوريا و قسم من اسيا الصغرى و امتدت تجارته الى قبرص. و كان لدولة اكد في عهده, ادارة منظمة و مركزية اصبحت فيما بعد مثال للأنظمة اللاحقة.
وضع سرجون نظاما شبه مركزي او اشتراكي في زراعة الارض وتوزيع حصادها، فكانت المجموعة التي تنتمي الى معبد معين تشتغل على  ربع مساحة ارض الهيكل لصالح المجموع. ويدعى البستان او الارض المشاع تحرثها المجموعة كلها.
وهنالك قسم آخر هو الارض المقطعة الى قرى او مزارع والموزعة على اعضاء المجموعة لسد حاجاتهم وتدعى كور.
وهنالك قسم ثالث يدعى ارض الغلال  تؤجر للمستأجرين بأجر يتراوح ما بين ثلث المحصول وسدسه. ويخزن في المعبد بمستودعات الغلال حتى تحين الحاجة, ويتم دفع القسم الاكبر من الأجر , حبوبا . و قسم صغير منها بالفضة.
كان الهيكل او المعبد , يقدم حبوب البذور والحيوانات والادوات لحراثة الارض المشتركة، بينما الناس من كل الطبقات العليا والكادحة يعملون في الحقول التي تخص( السيد الرب ).
تفرد هذا النظام، بأن جميع اعضاء المجموعة كانوا متساوين من حيث المبدأ، فكل واحد منهم يتناول حصة وقطعة أرض لتأمين حاجاته. والجميع يعملون في الارض المشتركة وفي الأقنية والسدود. ولم يكن هنالك وجود لطبقة عاطلة عن العمل .
أما بعض الاغراب أو أسرى الحروب يقتنون كعمال  يعملون في المعبد الى جانب الاحرار كحمالين وكعمال زراعيين في البستنة. بينما سبايا الحروب من البنات فكن يوجدن بأعداد كبيرة كحائكات دون ان يمتلكهن أحد وكن يساعدن في المطابخ وفي مصانع الجعة ( البيرة ) . وقد ورد ذكر النساء ايضا كمالكات لقطع الاراضي.
لقد أبدع الملك سرجون في اقامة اول مجتمع شبه  اشتراكي يتحلى نظامه بمرونة لم تفلح انظمة الحكم الحديثة في احتذائها، حيث وضع هذا الملك العظيم الاسس لتضامن جهد الفرد وجهد المجموع, كما وضعوا في صلب مفهوم العبادة الدينية وعيا اجتماعيا حياتيا متقدما جعل المعبد والمؤسسة الاجتماعية يندمجان في كل واحد لا تكاد تميز فيه حدود الواحد عن الاخر . كما ان الوظيفة الدينية اندمجت بالوظيفة الاجتماعية – الاقتصادية ولم يعد ثمة حاجز بين الوظيفتين .
ليتنا جميعا في عالمنا العربي نستعيد امجاد وحضارة إمبراطورية سرجان ، ونستفيد منها في اقامة نظم الحكم في بلادنا، وساعتها نستعيد حرية قرارنا السياسي وقوتنا ونحمي حدودنا ومجتمعنا من الافكار الهدامة.