فائزة محمد علي الفدعم
كانت الامسيات في الماضي الجميل رائعة . فبعد مغيب الشمس وعودة الناس من المقاهي الى بيوتهم بشكل هاديء بطيء مع ترنيمة هديل الحمام في البساتين على اشجار النخيل ولا تُسمع الا اصوات بائع الفجل قبل العشاء وحوافر الخيل احيانا وضحكات هامسة للمارّة وتصبح مدينة بعقوبة خالية ويعم السكون ومن النوافذ نرى مصابيح تتلألأ وبعدها تبدا العوائل بالزيارات التي تسمى ( التعلولة ) وكل منها تذهب الى جارها ليتسامروا ويتناقشوا بأمورهم اليومية ومابين ضحك ومرح وفرح وبعضهم يطلبون الكبيرات بالسن من النساء لتروي لهم قصة من الماضي مع تناول الشاي والكعك والچرك . ونحن في هذه الحالة دخلت علينا فجأة ضيفة وبعد السلام والسؤال عن الصحة والاحوال اشارت قريبتنا الى والدي بان لدي طلب وأمالت رأسها مع نبرة رجاء وتوسل قالت : اني ( بشاربك حجي ) فاجابها بكل طيبة قلب وشفقة (اني حاضر لكل ما استطيع تقديمه ) وحسب امكانياتي وتوجهت اليه والدموع تنساب من عينيها وقالت :
قد اصيب ولدي بضائقة مادية ولا يستطيع حلّها بعد ان دخل في مشروع خاسر . وهنا ارتبك الوالد وصمت قليلا وهو ينظر الينا واضطر للبوح بما يجيش في خاطره وقال انت تعرفين والاخرين انني اقوم ببناء دارين في آن واحد الان ولا يتوفر لدي هذا المبلغ الذي تطلبينه وبعد ان شاهد وجهها والالم يعتصر قلبها قال وهو ينظر الينا ولكن لدينا بستان تسمى (المجدد ) في قرية خرنابات ورثها عن والدته الحاجة رازقية البندر واكثر اقربائه شركاء معه فيها ونستطيع رهن الحصة الخاصة بي لننقذ ولدك على ان يُسدد المبلغ في موعده المُحدد .
فرحت واستبشرت خيرا بهذا المقترح ومرت الايام ونحن ننتظر موعد الذهاب الى ( المجدد ) كما تعودنا في الربيع من كل سنة والعائلة تحتفل فيها ويجود علينا الوالد بالدنانير التي حصل عليها من موارد بقية الاملاك ويشتري احتياجاتنا وما يكفي مدة بقائنا فيها ونحن نستمتع باحلى الملابس والاساور والقلائد الذهبية في ايادينا واعناقنا .
ذهب والدي في اليوم التالي الى دائرة الطابو الواقعة قرب ( القلّغ ) في محلة المنجرة وكانت اغلب الدوائر الحكومية حينها في منطقة السراي على امل ان يكون الرجل قد سدد النقود في وقتها المُحدد وكنا نحلم في ذلك الوقت الذي سنقضيه في البستان ولم نكن نعلم مايخبئهُ لنا القدر فقد كان الدلال المنادي بصوته الجهوري السيد ناجي نركوزه الذي تعود التجوال في كافة مناطق بعقوبة الرئيسية يُعلن عن القرارات والبلاغات الحكومية التي كان قد دونها في ورقة يحملها بيده وهو ضخم الجثة وصوته يصل الى مسافات بعيدة حين ينادي الناس ويُخبرهم بالقرارات والبلاغات الحكومية واذكر انه اعتاد ان يلبس دشداشة طويلة وعريضة مع صاية تتناسب مع ضخامته وطوله ويضع العرقجين واحيانا الشماغ على راسه وهو شخصية معروفة وله علاقات واسعة مع التجار والمُقاولين والملاكين وقد رايته مرة مُمسكا برغيف من الخبز وكان ياكله وهو يتناول الشاي في المقهى القريب من دارنا واحيانا يطرق الباب للتبليغ وكنت انظر اليه باستغراب وخوف بسبب ضخامته وطوله الفارع ولكنه في الحقيقه كان لطيف المعشر رغم انه لايبتسم الا ماندر وكان يتميز بالسير ببطىء ومن ضمن ماقاله لوالدي ان المجدد سيباع ( بستان يطلق عليه هذا الاسم ) لعدم تسديد مبلغ الرهن .
عندما سمع والدي قال (لاحول ولا قوة الا بالله ) والتفت الى والدتي واخبرها بان النقود التي في البيت لاتكفي لسداد المبلغ . فقالت له ان الامر بسيط وتستطيع ان تتجاوزه وخرجت بعد قليل من الوقت واصطحبتني معها الى دار السيد اسحاق وكانت زوجته صديقتها وهم مقربين من عائلتنا وتربطنا معهم علاقات صداقة متينة وكنا نقضي اوقات كثيرة في دارهم الذي يقع في زقاق صغير وكان جارهم من اليمين السيد صادق ابو جلود ومن اليسار بيت كاظم دروش العلوجي وجارتهم الاخرى هي العزيزة (الخالة جسومه ) والدة السيد عبد الرسول الذي اصبح مُهندسا في دائرة الري بعد تخرجه ووالدة السيد عبد الله المُلقب (عبد ) الذي مات مُنتحرا في منطقة الغابات على طريق بني سعد لانهُ اتهم بانتمائه لاحد الاحزاب وكان انسانا رائعا وفي صغري كان يناديني بنت الحجيج .
دخلنا بيت اسحاق وبدون تردد قصت عليها حكاية البستان التي يريدون بيعها وقد وضعت بالمزاد والمطلوب ان يُسدد الحجي المبلغ غدا وبدون تلكؤ ومع ابتسامة اجلستني على تختة عند حافة الحديقة وهي مصنوعة من الخشب مربعة الشكل ودارهم جميل جدا في قسمه الشرقي مزروع فيه ورد الآس والدفلة علاوة على الكرفس والرشاد واعطتني عصا صغيرة كعادتها كلما قمنا بزيارتهم لاصنع مجرى للماء المُتدفق من النافورة التي تتوسط البيت وتركتني وذهبت مع والدتي لتدخل غرفة مُقابلة للحديقة وفتحت دولابا كبيرا اخرجت منهُ قاصة مُتوسطة الحجم وقد تبين انها تعود لاطفالها كما روت لنا فكل واحد منهم لديه واحدة خاصة به منذ ولادته وكانت هذه العادة سائدة لدى العوائل اليهودية توضع فيها النقود ولا تفتح الا عند زواجهم ليشاركوا في تكاليفه وتُسمى هذه النقود (الدوطه ) ...
لمحت وانا اراقبهم والدتي تاخذ النقود وبالمقابل سلمتها قطع ذهبية محفوظة في منديل ولكن صديقتها قالت لها وهي تبتسم (بيت الحجي كلكم فلوس ) وقبل ان نخرج قبلتني الخالة وفي اليوم التالي نهضنا من النوم مبكرا وشاهدت ابي يجمع النقود ويخرج وذهب مسرعا الى بناية السراي ليقابل ( صدوق اميني ) اي امين الصندوق وهو السيد صبحي موسى الكرادي الذي كان مشغولا ولم يستطع التحدث معه لان ذلك اليوم كان يصادف نهاية الشهر وعليه الذهاب الى بغداد لجلب رواتب الموظفين وانطلق مُسرعا الى سيارة كانت تنتظرهُ في الباب يجلس فيها شرطي يحمل بندقية ونظر الى والدي وقال الامر بسيط وسننجز القضية بعد عودتي دون ان يفهم سبب استعجال الحجي بانهاء هذا الامر وبقي ابي حائرا ولايدري ما الذي عليه فعله وهذا اليوم هو موعد بيع البستان ولايعرف الى متى ينتظر وهل سيتمكن من التحدث معه؟ حيث سيكون مشغولا بدفع رواتب العاملين في القرى والنواحي والاقضية مثل مندلي وخانقين وتيلتاوه ( قضاء الخالص ) .
فقابل مضطرا المسؤول في السراي مُستفسرا منهُ عن موعد بيع البستان لكنه لم يجد اذنا صاغية فعاد الى البيت مُتألما ومتاسفا عما حدث من قريبنا الذي التاخر عن تسديد مبلغ الدين وكيف سيخسر هذه البستان الجميلة وفي صباح اليوم التالي صحوت من النوم ووجدت والدي ووالدتي يتهيآن للسفر واخذتني الوالدة لارتدي ملابسي وقامت بتمشيط شعري على عجل وكان والدي مرتبكا ومنزعجا وفي تلك العجلة ارتديت ثوبا جميلا كنت اود ارتدائه من زمان وفي تلك الاثناء وصلت الى باب البيت سيارة كان قد استاجرها لنسافر بها الى بغداد ولقاء بعض المعارف من اجل مساعدتنا في حل هذه المشكلة . في الطريق كنت اجلس الى جانب امي وافكر بناجي نرگوزه الذي كنت اضنه سبب البلاء وضياع بستاننا حتى وصلنا منطقة الوزيرية وتوجهنا الى بيت احد معارفنا وهو ( ابو كيلان بابان ) الذي يقع مقابل بيت السيد حسن التتار الذي كان قصرا جميلا لا انساه ماحييت وبقينا عندهم وتناولنا طعام الغداء . وعصر ذلك اليوم ذهبنا الى دار السيد رئيس الوزراء نور الدين محمود فاستقبلتنا زوجته السيدة الفاضلة احسن استقبال وادخلتنا الى غرفة انيقة جلسنا فيها وحدثناها عما لحق بنا من تعسف وظلم ادى الى بيع البستان ونحن نرجو مساعدتنا في اعادتها الينا لاننا لم نكن السبب في التاخر في دفع المبلغ وقد استجابت السيدة لمطلبنا ووعدت بانها ستطلب من زوجها التدخل وخرجنا وهي تسير معنا الى الباب الخارجية التي كانت امامها دبابة وسيارة فيها شرطي واحد .
قالت ام كيلان لوالدتي هذه الدبابة تزعجنا ولكنهم وضعوها امام البيت بحجة ان هناك حركة ضد الحكومة وعندما تهدأ الامور ستعود الى المعسكر . سرنا ونحنُ مُطمئنين الى وعدها بالمساعدة . وفي الطريق الى سيارات بعقوبة كان في ذهني ان ناجي نركوزة يُتابعنا وانهُ السبب في وجود هذه الدبابة الكبيرة الضخمة كضخامته ونحنُ مُسرعين في السير والشمس مازالت مُرتفعة فوق رؤوسنا وانا كنت ارتدي الفُستان اللمّاع المشهور باسم قماش (طفي الضوء ) لشدة لمعانه وكنت احك يدي ورجلي ورقبتي وكانني مُرتدية ثوبا من الشوك فتارة ابكي وتارة اقرص يد والدتي من الألم وشبح ناجي الدلال امامي وحالما وصلنا الى بيتنا خلعته فورا وارتديت فستانا اخر وجدته على الاريكة وخرجت مُسرعة كالمجنونة لارميه في نهر خريسان انتقاما منهُ بعدما عذبني كل هذا الوقت الطويل . كنا وبقية العائلة في حالة من الحزن ونحن ننتظر اليوم التالي وتفاجئنا باعلان السيد ناجي نركوزة (ايڤان الرهيب ) عن بيع البستان فتبخرت احلامنا وكذلك شاركنا الالم والحسرة الجيران والاصدقاء وعند العصر جاء لتبليغ والدي عن البيع الذي تم نظرا لنفاذ المدة القانونية وكاد يختنق في لفظ العبارات وهنا اخذني العطف عليه بعد اكتشافي طيبة هذا الرجل المسكين الذي كان يُؤدي واجبا وامرا حكوميا وان التقصير جاء من قريبنا الذي لم يفي بوعده .
وعندما كبرت وقرأت قصة ايفان الرهيب تبين لي انهُ لم يكن يُشبهُ السيد ناجي نركوزة .
كانت الامسيات في الماضي الجميل رائعة . فبعد مغيب الشمس وعودة الناس من المقاهي الى بيوتهم بشكل هاديء بطيء مع ترنيمة هديل الحمام في البساتين على اشجار النخيل ولا تُسمع الا اصوات بائع الفجل قبل العشاء وحوافر الخيل احيانا وضحكات هامسة للمارّة وتصبح مدينة بعقوبة خالية ويعم السكون ومن النوافذ نرى مصابيح تتلألأ وبعدها تبدا العوائل بالزيارات التي تسمى ( التعلولة ) وكل منها تذهب الى جارها ليتسامروا ويتناقشوا بأمورهم اليومية ومابين ضحك ومرح وفرح وبعضهم يطلبون الكبيرات بالسن من النساء لتروي لهم قصة من الماضي مع تناول الشاي والكعك والچرك . ونحن في هذه الحالة دخلت علينا فجأة ضيفة وبعد السلام والسؤال عن الصحة والاحوال اشارت قريبتنا الى والدي بان لدي طلب وأمالت رأسها مع نبرة رجاء وتوسل قالت : اني ( بشاربك حجي ) فاجابها بكل طيبة قلب وشفقة (اني حاضر لكل ما استطيع تقديمه ) وحسب امكانياتي وتوجهت اليه والدموع تنساب من عينيها وقالت :
قد اصيب ولدي بضائقة مادية ولا يستطيع حلّها بعد ان دخل في مشروع خاسر . وهنا ارتبك الوالد وصمت قليلا وهو ينظر الينا واضطر للبوح بما يجيش في خاطره وقال انت تعرفين والاخرين انني اقوم ببناء دارين في آن واحد الان ولا يتوفر لدي هذا المبلغ الذي تطلبينه وبعد ان شاهد وجهها والالم يعتصر قلبها قال وهو ينظر الينا ولكن لدينا بستان تسمى (المجدد ) في قرية خرنابات ورثها عن والدته الحاجة رازقية البندر واكثر اقربائه شركاء معه فيها ونستطيع رهن الحصة الخاصة بي لننقذ ولدك على ان يُسدد المبلغ في موعده المُحدد .
فرحت واستبشرت خيرا بهذا المقترح ومرت الايام ونحن ننتظر موعد الذهاب الى ( المجدد ) كما تعودنا في الربيع من كل سنة والعائلة تحتفل فيها ويجود علينا الوالد بالدنانير التي حصل عليها من موارد بقية الاملاك ويشتري احتياجاتنا وما يكفي مدة بقائنا فيها ونحن نستمتع باحلى الملابس والاساور والقلائد الذهبية في ايادينا واعناقنا .
ذهب والدي في اليوم التالي الى دائرة الطابو الواقعة قرب ( القلّغ ) في محلة المنجرة وكانت اغلب الدوائر الحكومية حينها في منطقة السراي على امل ان يكون الرجل قد سدد النقود في وقتها المُحدد وكنا نحلم في ذلك الوقت الذي سنقضيه في البستان ولم نكن نعلم مايخبئهُ لنا القدر فقد كان الدلال المنادي بصوته الجهوري السيد ناجي نركوزه الذي تعود التجوال في كافة مناطق بعقوبة الرئيسية يُعلن عن القرارات والبلاغات الحكومية التي كان قد دونها في ورقة يحملها بيده وهو ضخم الجثة وصوته يصل الى مسافات بعيدة حين ينادي الناس ويُخبرهم بالقرارات والبلاغات الحكومية واذكر انه اعتاد ان يلبس دشداشة طويلة وعريضة مع صاية تتناسب مع ضخامته وطوله ويضع العرقجين واحيانا الشماغ على راسه وهو شخصية معروفة وله علاقات واسعة مع التجار والمُقاولين والملاكين وقد رايته مرة مُمسكا برغيف من الخبز وكان ياكله وهو يتناول الشاي في المقهى القريب من دارنا واحيانا يطرق الباب للتبليغ وكنت انظر اليه باستغراب وخوف بسبب ضخامته وطوله الفارع ولكنه في الحقيقه كان لطيف المعشر رغم انه لايبتسم الا ماندر وكان يتميز بالسير ببطىء ومن ضمن ماقاله لوالدي ان المجدد سيباع ( بستان يطلق عليه هذا الاسم ) لعدم تسديد مبلغ الرهن .
عندما سمع والدي قال (لاحول ولا قوة الا بالله ) والتفت الى والدتي واخبرها بان النقود التي في البيت لاتكفي لسداد المبلغ . فقالت له ان الامر بسيط وتستطيع ان تتجاوزه وخرجت بعد قليل من الوقت واصطحبتني معها الى دار السيد اسحاق وكانت زوجته صديقتها وهم مقربين من عائلتنا وتربطنا معهم علاقات صداقة متينة وكنا نقضي اوقات كثيرة في دارهم الذي يقع في زقاق صغير وكان جارهم من اليمين السيد صادق ابو جلود ومن اليسار بيت كاظم دروش العلوجي وجارتهم الاخرى هي العزيزة (الخالة جسومه ) والدة السيد عبد الرسول الذي اصبح مُهندسا في دائرة الري بعد تخرجه ووالدة السيد عبد الله المُلقب (عبد ) الذي مات مُنتحرا في منطقة الغابات على طريق بني سعد لانهُ اتهم بانتمائه لاحد الاحزاب وكان انسانا رائعا وفي صغري كان يناديني بنت الحجيج .
دخلنا بيت اسحاق وبدون تردد قصت عليها حكاية البستان التي يريدون بيعها وقد وضعت بالمزاد والمطلوب ان يُسدد الحجي المبلغ غدا وبدون تلكؤ ومع ابتسامة اجلستني على تختة عند حافة الحديقة وهي مصنوعة من الخشب مربعة الشكل ودارهم جميل جدا في قسمه الشرقي مزروع فيه ورد الآس والدفلة علاوة على الكرفس والرشاد واعطتني عصا صغيرة كعادتها كلما قمنا بزيارتهم لاصنع مجرى للماء المُتدفق من النافورة التي تتوسط البيت وتركتني وذهبت مع والدتي لتدخل غرفة مُقابلة للحديقة وفتحت دولابا كبيرا اخرجت منهُ قاصة مُتوسطة الحجم وقد تبين انها تعود لاطفالها كما روت لنا فكل واحد منهم لديه واحدة خاصة به منذ ولادته وكانت هذه العادة سائدة لدى العوائل اليهودية توضع فيها النقود ولا تفتح الا عند زواجهم ليشاركوا في تكاليفه وتُسمى هذه النقود (الدوطه ) ...
لمحت وانا اراقبهم والدتي تاخذ النقود وبالمقابل سلمتها قطع ذهبية محفوظة في منديل ولكن صديقتها قالت لها وهي تبتسم (بيت الحجي كلكم فلوس ) وقبل ان نخرج قبلتني الخالة وفي اليوم التالي نهضنا من النوم مبكرا وشاهدت ابي يجمع النقود ويخرج وذهب مسرعا الى بناية السراي ليقابل ( صدوق اميني ) اي امين الصندوق وهو السيد صبحي موسى الكرادي الذي كان مشغولا ولم يستطع التحدث معه لان ذلك اليوم كان يصادف نهاية الشهر وعليه الذهاب الى بغداد لجلب رواتب الموظفين وانطلق مُسرعا الى سيارة كانت تنتظرهُ في الباب يجلس فيها شرطي يحمل بندقية ونظر الى والدي وقال الامر بسيط وسننجز القضية بعد عودتي دون ان يفهم سبب استعجال الحجي بانهاء هذا الامر وبقي ابي حائرا ولايدري ما الذي عليه فعله وهذا اليوم هو موعد بيع البستان ولايعرف الى متى ينتظر وهل سيتمكن من التحدث معه؟ حيث سيكون مشغولا بدفع رواتب العاملين في القرى والنواحي والاقضية مثل مندلي وخانقين وتيلتاوه ( قضاء الخالص ) .
فقابل مضطرا المسؤول في السراي مُستفسرا منهُ عن موعد بيع البستان لكنه لم يجد اذنا صاغية فعاد الى البيت مُتألما ومتاسفا عما حدث من قريبنا الذي التاخر عن تسديد مبلغ الدين وكيف سيخسر هذه البستان الجميلة وفي صباح اليوم التالي صحوت من النوم ووجدت والدي ووالدتي يتهيآن للسفر واخذتني الوالدة لارتدي ملابسي وقامت بتمشيط شعري على عجل وكان والدي مرتبكا ومنزعجا وفي تلك العجلة ارتديت ثوبا جميلا كنت اود ارتدائه من زمان وفي تلك الاثناء وصلت الى باب البيت سيارة كان قد استاجرها لنسافر بها الى بغداد ولقاء بعض المعارف من اجل مساعدتنا في حل هذه المشكلة . في الطريق كنت اجلس الى جانب امي وافكر بناجي نرگوزه الذي كنت اضنه سبب البلاء وضياع بستاننا حتى وصلنا منطقة الوزيرية وتوجهنا الى بيت احد معارفنا وهو ( ابو كيلان بابان ) الذي يقع مقابل بيت السيد حسن التتار الذي كان قصرا جميلا لا انساه ماحييت وبقينا عندهم وتناولنا طعام الغداء . وعصر ذلك اليوم ذهبنا الى دار السيد رئيس الوزراء نور الدين محمود فاستقبلتنا زوجته السيدة الفاضلة احسن استقبال وادخلتنا الى غرفة انيقة جلسنا فيها وحدثناها عما لحق بنا من تعسف وظلم ادى الى بيع البستان ونحن نرجو مساعدتنا في اعادتها الينا لاننا لم نكن السبب في التاخر في دفع المبلغ وقد استجابت السيدة لمطلبنا ووعدت بانها ستطلب من زوجها التدخل وخرجنا وهي تسير معنا الى الباب الخارجية التي كانت امامها دبابة وسيارة فيها شرطي واحد .
قالت ام كيلان لوالدتي هذه الدبابة تزعجنا ولكنهم وضعوها امام البيت بحجة ان هناك حركة ضد الحكومة وعندما تهدأ الامور ستعود الى المعسكر . سرنا ونحنُ مُطمئنين الى وعدها بالمساعدة . وفي الطريق الى سيارات بعقوبة كان في ذهني ان ناجي نركوزة يُتابعنا وانهُ السبب في وجود هذه الدبابة الكبيرة الضخمة كضخامته ونحنُ مُسرعين في السير والشمس مازالت مُرتفعة فوق رؤوسنا وانا كنت ارتدي الفُستان اللمّاع المشهور باسم قماش (طفي الضوء ) لشدة لمعانه وكنت احك يدي ورجلي ورقبتي وكانني مُرتدية ثوبا من الشوك فتارة ابكي وتارة اقرص يد والدتي من الألم وشبح ناجي الدلال امامي وحالما وصلنا الى بيتنا خلعته فورا وارتديت فستانا اخر وجدته على الاريكة وخرجت مُسرعة كالمجنونة لارميه في نهر خريسان انتقاما منهُ بعدما عذبني كل هذا الوقت الطويل . كنا وبقية العائلة في حالة من الحزن ونحن ننتظر اليوم التالي وتفاجئنا باعلان السيد ناجي نركوزة (ايڤان الرهيب ) عن بيع البستان فتبخرت احلامنا وكذلك شاركنا الالم والحسرة الجيران والاصدقاء وعند العصر جاء لتبليغ والدي عن البيع الذي تم نظرا لنفاذ المدة القانونية وكاد يختنق في لفظ العبارات وهنا اخذني العطف عليه بعد اكتشافي طيبة هذا الرجل المسكين الذي كان يُؤدي واجبا وامرا حكوميا وان التقصير جاء من قريبنا الذي لم يفي بوعده .
وعندما كبرت وقرأت قصة ايفان الرهيب تبين لي انهُ لم يكن يُشبهُ السيد ناجي نركوزة .
0 تعليقات
إرسال تعليق